مشرق الحياة الانطاكي

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

وكأن الدمار الذي هو من صنع الانسان لا يكفي، أتت الطبيعة تضيف على مأسي شعبنا في المشرق، مشرق المسيحية، حيث دعي المسيحيون أولا، وحيث انتشرت الرسالة، ومن شواطئه وعبر وعورة جباله، عمّت العالم.

الحصار والدمار والتشرد، الذي ما فتئ المشرق الانطاكي مسرحاً لهم، منذ خراب فلسطين، الى دمار لبنان، الى تمزيق العراق فالشام، هما من صنع البشر، وعن سابق تصور وتصميم.

ما هذه الصدفة ان تدمر هذه البلدان، واحدة تلو الأخرى، وبشكل منهجي، وان تفكك مجتمعاتها، وان تتحلل اقتصاداتها، وان تشرد شعوبها، فتصبح مسرح عمليات عسكرية وموئل إرهاب ونطاق عنف عز نظيرهم في تاريخنا الحديث؟

ها هي فلسطين، الاولى بالدور في "ملحمة" الدمار، ترزح تحت الاحتلال، وتجتاحها المستوطنات، وينكل بشعبها على مدار الساعة، ويمنع الفلسطينيون من ممارسة حياتهم الطبيعية، عدا عن الاعتقالات وهدم المنازل واقتلاع أشجار الزيتون الذي "لو يعرف غارسه لصار الزيت دمعا" كما خط قلم الشاعر. الا ترى المنظمات المعنية بالطفولة حال الأطفال في فلسطين؟

ها هو لبنان، الثاني بالدور في "ملحمة" الدمار، وقد أفرغ من شعبه وتحول الصامدون فيه الى البؤس والمرض والضياع. اقتصاده المزدهر قد زبل، وفنونه بادت، ودخل في زمن لم يحلم به اللبنانيون، حتى في كوابيسهم. قطاعاته اللامعة قد دمرت بالتدريج، بعد الاقتصادي انهار الصحي والتربوي والسياحي، في أتون دين عام ساهم به الداخل بقدر ما ساهم الخارج، فتساووا بالأذى لفقدان الضمير. حتى ثرواته الطبيعية يمنع عليه استثمارها.

ها هو العراق، الثالث بالدور في "ملحمة" الدمار، وقد تمزق شعبه الذي كانت وحدته مثالية، فتحول شراذم متناحرة، وأصبح، وهو صاحب أكبر الاحتياطات النفطية في العالم، مجتمعا يعمه الفقر ويشرد شعبه في اصقاع المعمورة بعد ان كان رمز الكرم والازدهار. هل من الطبيعي محاصرة بلاد بهذا الحجم لعقد من الزمن وقتل اطفاله ورمي ناسه فريسة المرض، وتنتهي المسألة باعتذار، بسبب "خطأ في العنوان" ولا من يسأل ولا من يحاسب؟

هذه هي الشام، الرابعة في "ملحمة" الدمار، وقد مُزق مُجتمعها وشُرد أهلها ودُمر اقتصادها، ولم يكن ينقصها سوى زلزال يقضي على جزء من مدنها الشمالية ويزعزع بعضا من الاستقرار الذي بالكاد بدأت تنعم به بعد عقد من الحروب والتخريب. الشام، حيث علامات الانتشار المسيحي تملأ الأمكنة، أصبحت مهددة في اقتصادها وقطاعاتها الإنتاجية بعد ان كانت الدولة الوحيدة في العالم التي ليست في حالة الاستدانة والتي تتمتع باكتفاء ذاتي عز نظيره.

لقد استُعملت ضد هذه المجتمعات كافة أدوات الفتك حيث تنفع. الانقسامات الداخلية والاجتياحات الخارجية وعصابات الإرهابيين، والحصار المعيشي، والحصار النقدي، وسميت عقوبات، والتشويه الإعلامي، واللائحة تطول.

نحن اليوم كمسيحيون مشرقيون، ننظر الى القدس وأنطاكية، على حد سواء، نظرة الم وامل. الم لما يجري في المجتمعات التي أطلقت عليها تسمية "انطاكية وسائر المشرق"، وامل بأن مسيحيتنا، على صورة مسيحنا ومثاله، عصية على الفناء. ليس غريبا ان تكون اسطورة طائر الفينيق، الذي يبعث من رماده، من انتاج مخيلة شعبنا، فنحن ما فتئنا نعيش القيامة منذ آلاف السنين وقد جسدها السيد المتجسد بأبهى مثال. هو يرافقنا كل يوم، في كل قرار نتخذه وفي كل خطوة نقوم بها. محبته وقدوته تلهماننا سواء السبيل.

يمر الزمن وتسير الاحداث وتفعل فعلها ثم تنتهي، ونحن باقون ما بقي الكون، على اسم المخلص!

Previous
Previous

متحدون في الصلاة

Next
Next

الأمين العام د. ميشال عبس ووفد من مجلس كنائس الشرق الأوسط في لقاء مع قداسة البابا فرنسيس بعد مقابلته العامة