شمال المشرق الانطاكي، بريق امل من قلب المأساة
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
هي نفسها المنطقة التي شهدت منذ حوالي القرن المجازر والتهجير، اعمالا من صنع البشر، تشهد اليوم مجازر وتهجير من صنع الطبيعة.
المشهد هو نفسه يتكرر بعد مئة عام.
مدن وقرى ودساكر تفرغ من ساكنيها الذين اما يقضون او يرحلون.
تجدهم مشردين في ارضهم، يبحثون عن ملجأ يبعد عنهم العراء وبرد الشتاء، عن ثوب يسترون به أجسادهم التي أنهكها التشرد والعوز، عن لقمة عيش يسدون بها رمقهم... بالمختصر، يبحثون عن الحد الأدنى المطلوب للكرامة الإنسانية.
بين كوارث من صنع البشر، وكوارث من صنع طبيعة، أمعن بها البشر اذية، نحن امام جماعات تعيش في منطقة من اهم مناطق المشرق من حيث الفكر والثقافة والايمان. لقد كانت حاضراتها منارات، لا زالت علوم الانسان واللاهوت تسترشد باللذين برزوا فيها.
اكانت انطاكية، رمز مسيحيتنا، ام أضنة، أم طرسوس، ام مرسين، ام الاسكندرون، ام خربوط، ام عينتاب، ام مرعش، وصولا الى طور عابدين ومدنها المزدهرة، بلوغا الى سنجق حكاري، فهي منطقة تدفع ضريبتين جغرافيتين، واحدة سياسية وأخرى طبيعية.
منذ قرن، دفعت هذه المنطقة، المتنوعة اثنيا، ضريبة التنوع الشعبي الثقافي الذي يطبعها، إضافة الى ضريبة تصارع القوى العظمى عليها، فشهدت مجازر يندى لها جبين البشرية، وتعتبر عارا في سجل التاريخ الإنساني. اما اليوم فتدفع ضريبة تنوع التركيبة الطبيعية، حيث تلتقي الفوالق، كما تلتقي الجماعات الاثنية والعرقية، وتتفاعل و"تتخاصم" لكي تؤدي الى الكارثة التي نعيشها اليوم. كلاها فوالق، واحدة جيو- سياسية وأخرى جيولوجية.
اما بين الكارثتين، السياسية والطبيعية، فلا نستطيع ان نقول هذه المنطقة قد استراحت، اذ قد استمر غليانها طيلة قرن من الزمن.
ان الطبيعة الوعرة لهذه المنطقة جعلت ان تلجأ جماعات باحثة عن مخبأ او عن معاقل صمود وصراع، ضد دولة او عدو او غازٍ. طيلة قرن من الزمن، بين الكارثتين، وهذه المنطقة تعيش على فوهة بركان، ويندران تكون منطقة في العالم قد سُقي ترابها بالدماء مثل هذه المنطقة. من انطاكية الى ماردين، قوس من نار ونور، نار تحرق من فيها ونور يضيء للعالم.
اليوم، وبينما الزلازل تتوالى على مدينة الله العظمى انطاكية ومحيطها، ونحن نرى في وسائل الاعلام الدمار الذي لحق بها، وكيف ان كنيسة التأسيس المسيحي، كاتدرائية الرسولين بولس وبطرس، قد دمرت بالكامل، لن نقنط ولن نبكي، بل سوف نردد مع صاحب الغبطة يوحنا العاشر، بطريركها، ما قاله الاحد الفائت في القداس:
"انطاكية، وان كانت في هذه الأيام جريحة تتوجع، خاصة بعد الزلزال الذي ضرب في ديارنا، آثار في الأرواح، في البشر وفي الحجر، والعديد من الكنائس تهدمت وسويت مع الارض، ولكن رغم ذلك أستطيع ان أقول، وفي اجتماع هؤلاء الاخوة كلهم مع بعضهم البعض، من مشارق الأرض الى مغاربها، أستطيع ان أقول هذه هو بهاء انطاكية، وأنطاكية قائمة دوما وابداً، وهو في وسطها ولن تتزعزع."
ويضيف صاحب الغبطة " ونحن نقول ايضاً ونتجرأ، انه إذا كان للمسيحية من مهد، فهناك المهد الجسدي حيث ولد السيد في اورشليم، وهناك المهد الفكري، انطاكية، التي منها انطلق الرسول بولس وبشر كل الأمم".
نحن، يا صاحب الغبطة، كما ورد في عظتكم، وكما تفعلون، نجهد في اطعام الجياع وايواء المشردين وشفاء المرضى، عملا بوصية من سُمينا على اسمه في انطاكية أولا. نحن نسترشد بكم اذ ننتمي الى لاهوت العطاء، القائم على المحبة التي لا حدود لها وننحاز الى صيانة البشر والحجر وكرامة الانسان وحريته.
نعاهدكم يا صاحب الغبطة، كما ذكرتم قي عظتكم القلبية، اننا لن ندخر وسعاً لكي " تبقى انطاكية عروس المسيح البهية...رغم المحن ورغم الصليب، ولكن من على الصليب هناك القيامة"، كما سوف تبقى انطاكية "عامود الحق وراية السلام والخلاص والفرح لكل انسان ينشد الفرح والسلام على وجه البسيطة".
هذا دأب الايمان والمحبة التي تشمل البشرية بأسرها، ونحن منتمون الى هذا الايمان وسوف ننهج به حتى انقضاء الدهر.