بين التسامح والكراهية، هذا السباق المحموم
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
لقد حددت منظمة الأمم المتحدة يوم السادس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر على انه اليوم الدولي للتسامح وتحتفل به عبر أنشطة متعددة، كما حددت السنة 1995 على انها سنة الأمم المتحدة للتسامح واعتمدت الدول الأعضاء إعلان المبادئ بشأن بالتسامح وخطة عمل متابعة سنة الأمم المتحدة للتسامح.
لا شك ان اعلان المبادئ هذا، يعتبر وثيقة قيمة ومهمة، يجدر التوقف امامها والتأمل في محتوياتها لما تحمله من قيم وتطلعات تؤمن للإنسانية مستقبلا افضل.
ولكن، مقابل ذلك، نرى تصاعدا للتعصب ورفض الاخر وخطاب الكراهية الذي ينجم عنهم، ويهدد بالإطاحة بكل ما تنجزه الإنسانية من مقاربات انفتاح ومحبة وتوق الى التناضج والتفاعل مع الاخر المختلف عنا في عدة أوجه، علما ان هذا الاختلاف ليس من الضروري ان يؤدي الى نزاعات وحروب لو احسنت الدول والمجتمعات والشعوب إدارة هذا التنوع.
في هذا المجال، لا بد لنا من التوقف امام بعض الآفات الاجتماعية التي تحتاج الى ان يتكون لدى المجتمع وعي لما تحمله من كوارث، من اجل التصدي لها.
المفهوم الأول هو النمطية، وهي فكرة أو صورة نكونها عن شخص أو جماعة ما، قائمة على تبسيط مفرط ومضرّ احيانا لخصائص موجودة أو مفترضة لهذه الجماعة، وهي منتشرة عند جماعة ما، حول جماعة أخرى، او متواجدة عند شخص ما حول جماعة او شخص او امر ما. قد تكون هذه النمطية سلبية أو إيجابية وهي تستند على الأحكام المسبقة اللاّغية لخصوصية الافراد.
المشكلة في النمطية انه يمكن إدارتها وتدعيمها عبر الإعلام، ويمكنها ان تكون جد مؤذية، حتى لو كانت إيجابية، اذ قد تخفي خصائص وتركز على خصائص أخرى بشكل غير علمي او غير واقعي.
تنتشر النمطية بالتربية والتكرار وقد تكون جزءاً من الاندماج الاجتماعي، لذلك تتغلب الأفكار النمطية على التجارب الشخصية للأفراد، فيصبح الفرد اسيرها ويقوم بتحوير وتزوير تجربته لكي تفي بتعاليم النمطية او كي لا تتناقض معها.
تشمل النمطية الأعراق والطوائف والأديان والاثنيات والجنسيات والجماعات الثقافية والسياسية و حتى المهن و الطبقات، وأسوأ ما فيها أنها مقاومة للتغيير بحكم ان الانسان قد تشربها خلال تربيته وتنشئته الاجتماعية.
المفهوم الثاني هو الأحكام المسبقة، وهي ﺁراء تكونت بسطحية ودونما تحليل أو تفحص لدى الفرد أو الجماعة بسبب محيطهم وانطباعاتهم، ويعود تكونها الى كسل ذهني، تفكير غير نقدي، نمط تفكير سلبي أو فكر متحجر عند الانسان او عند الجماعات.
الاحكام المسبقة على علاقة تفاعلية وثيقة مع النمطية، وتجري بينها تغذية متبادلة، ولكنها عادة ذات محتوى سلبي مؤذٍ للغير.
مثل النمطية، الاحكام المسبقة يصعب تغييرها أو الإقلاع عنها، ويحتاج ذلك إلى قدرة على النقد الذاتي لدى الفرد والى حس نقدي عامة.
اما المفهوم الثالث، العصبية، فهي شعور جماعي طبيعي يجمع الاقوام والجماعات ويوحدهم في مشاعرهم كما في مساعيهم.
العصبية شعور طبيعي لدى الجماعات البشرية يمثل حالة الخروج من زمن الفردية البدائية التائهة إلى المجتمع المنظم، ويؤمن التضامن الاجتماعي والفلاح للجماعات البشرية، وهو أساسا ينتج ويعبر عن هوية الجماعة وعن شعورها بالانتماء الى هوية واحدة، كما تعتبر ذات محتوى ايجابي إذا لم تكن موجهة ضد الغير.
اما المفهوم الثالث، التعصّب، فهو شعور مفرط بعدم قبول الأخر المختلف عرقياً أو دينياً أو طائفياً أو عقائدياً أو ثقافيا عنا.
ينتج عن التعصب قبول كل ما يقوم به أو يقوله من هو”مثلنا“، كما ينتج عنه رفض أو انتقاد كل ما يقوله أو يقوم به ”من ليس مثلنا“، مما يؤدي حكماً إلى تمييز غير علمي بين ”النحن“ و ”الهم“، وينتج عنه تاليا تعطيل كامل للتفكير العلمي الرشيد او الحس النقدي.
اما المفهوم الرابع، الناتج عن الذي سبقه، فهو التعصّب الديني، وهو، تاليا، من خصائص الجماعات الدينية، ومشكلته الأساسية انه يتعاطى مع امر لا يمكن السيطرة عليه، هو الماوراء.
يقوم التعصب الديني على عصبية العلاقة بين الأفراد و قد يتخطى متطلبات العقيدة الدينية، فيُحل هوية الجماعة الاجتماعية مكان الهوية الدينية، علما انه لا يتطلب تديناً صحيحا بل قد تكون ممارسته ومفاعيله معاكسين للدين. اما في حالات متقدمة من الأوضاع الطائفية السياسية، فقد يُحل التعصب الديني الانتماء السياسي مكان الانتماء العقيدي، وتكون المجموعة قد سيست الدين او توسلته في السياسة.
اما المفهوم الخامس، التعصّب الطائفي أو الطائفية، فهو مفهوم تطبيقي للمفاهيم التي سبقت.
في الطائفية تصبح الطائفة ومصالحها فوق مصالح الوطن والأفراد الذين تجري التضحية بهم من اجل الطائفة أو من يتحكم بقرارها. تجعل الطائفية من الهويات الفرعية - الطائفية هويات أقوى من الهوية الوطنية وتتقدم عليها.
إضافة الى ذلك، تشكل الطائفية حالة من حالات الانطواء للجماعات التي يفترض أن تشكل مجتمعا واحدا من حيث الاشتراك في الحياة، وتقوم الطائفة بتقسم المجتمع إلى فئات منغلقة على بعضها تعيش غربة وكأن أبناء هذه الطوائف لا يعيشون على ارض واحدة ولا في كنف دولة واحدة. يعني ذلك ان تؤدي الطائفية إلى حال عداء بين مكونات الأمة قد تفضي الى التناحر والى نزاعات ذات بعد شمولي.
اما المفهوم السادس، الاصولية الدينية التكفيرية، فهو الأخطر على الاطلاق بين كل هذه المفاهيم.
الأصولية الدينية التكفيرية هي منحى فكري يُخضع الأفراد والجماعات إلى المنظومة الكاملة – معتقد وشعائر- لدين ما، ويتعامل الأصوليون مع الدين بمنطق متحجر لا يقبل التحديث.
كما يعتبر الأصوليون أن قضيتهم هي ذات بعد كوني وابدي و يعتبرون أنفسهم مسئولون عن مصير البشرية عبر عقيدتهم، ويكون التعامل معهم شديد الصعوبة اذ انها تصلب الحرف ضد الروح و العقل كما ينظر الأصوليون إلى المنفتحين من أبناء دينهم على أنهم أول الأعداء لهذا الدين.
من جهة أخرى، يرى الباحثون في هذا المجال أن الأصوليون من مختلف الأديان، وحتى الاصوليون غير الدينيون، يتحلون بنفس الخصائص الذهنية و نفس القيم وكلما تقدمت الحداثة في المجتمع كلما ازداد الأصوليون تجذراً في تعصبهم، فيعمدون الى تكوين موقف دفاعي من كل ما يجري حولهم اذ يعتبرونه تهديدا له.
يعتبر الأصوليون أنفسهم نخبة مختارة مهمتها إنقاذ الإنسانية وينتجون قيادات ذات كاريزما عالية لتقود الجماعات التابعة لها.
هناك مفاهيم أخرى متفرعة عن تلك، تؤدي الى ضرب التسامح بين الناس والجماعات والى التباعد وتصاعد خطاب الكراهية، ولا بد من لن ينكب الباحثون عليها من اجل سبر اغوارها والإرشاد الى سبل التعامل معها.
في نهاية هذه المقالة، ودون التعامل مع كل هذه المفاهيم الخطير للمجتمع الإنساني في مصيره وتقدمه، احيل القارئ الى موعظة السيد التجسد على الجبل وأؤكد ان في معني وقيم هذه الموعظة ما يقي الانسان من اثم الأشرار.