الحجّ إلى صيدنايا

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

اليوم عيد ميلاد سيّدتنا مريم العذراء، سيّدة السيّدات التي فضّلها الرّب الباري على نساء العالمين واختارها لكي يتجسّد في قلبها السيّد الذي أتى خلاصًا للبشريّة من الإثم وصغائر النفس الامارة بالسوء.

في يوم الثامن من شهر أيلول يحتفل العالم بهذه المناسبة العظيمة، العظيمة في مفاعيلها وفي ما نتج عنها. وفي الليلة التي تسبق العيد، يحجّ الناس، من كافة أديان الأمّة، إلى دير سيّدة صيدنايا، في سوريا، من أجل التبرّك والصلاة والتأمّل. هناك يشعر الإنسان كم يستطيع أن يكون قريبًا من ربّه، من خالقه، من باريه، من نافخ الروح في ترابه، ومن القادر الذي يرعاه ويحميه.

زيارة الدير والتأمّل بمكوّناته تجربة لا مثيل لها يبدأها الحجّاج بإضاءة الشموع في مزار الشاغورة ويتوّجونها بأخذ صور لهم أمام الرسوم الجدرانيّة لـ حنّة ويواكيم، والديّ السيّدة العذراء، التي استودع الآب المتجسّد أحشائها.

حسب النصوص المتوفرة فإنّ حنّة ويواكيم لم يكن لديهما أولاد، فحضر عليهما ملاك الرّب وبشّرهما بمولد المخلّص من ابنتهما مريم التي حرصا على تربيتها تربية جيّدة فتقدمت إلى الهيكل حيث عاشت إلى أن خطبت ليوسف.

أمّا الإحتفال بميلاد السيّدة فيعود إلى أواسط القرن الخامس الميلادي في أورشليم حين كُرّست كنيسة على اسمها. من ثمّ، انتقل الإحتفال في القرن التالي إلى القسطنطينيّة حيث وضع القدّيس رومانوس المرنّم التراتيل الخاصّة بالعيد.

بعد ذلك، انتقل الإحتفال بالعيد من الشرق إلى الغرب.

يبدأ الإحتفال في صيدنايا في 7 أيلول بالتطواف المقدّس بأيقونة السيّدة العذراء المقدّسة في مدينة صيدنايا وينتهي بالوصول إلى دير السيّدة وإقامة صلاة الغروب ويتخلّل ذلك احتفالات ونشاطات مختلفة يقوم بها أبناء الرعيّة ومؤمنون قدموا من شتى أنحاء الوطن. ولكن الجدير ذكره أنّ المؤمنين الذين يحضرون من خارج سورية هم في ازدياد وتنوّع مستمرين لما للسيّدة العذراء من رمزيّة عالية على الصعيد الإيماني كما على الصعيد الوطني والثقافي.

خلال الأحداث التي عصفت بسوريا في العقد الماضي، تعرّض هذا الدير لهجوم في محاولة لإحتلاله وإيصاله إلى نفس مصير دير القدّيسة تقلا في معلولا وكلا الديرين موجودين في منطقة دقيقة من ناحية التضاريس الجغرافيّة التي تنعكس على الاستراتيجيّة العسكرية إذ أنّ الوصول إليهما سهل من جهة القلمون وسلسلة جبال لبنان الشرقيّة.

ولكن الذي أنقذ الدير هو تضامن أبناء المنطقة وعدم السماح لأيّ كان من التغلغل في المنطقة وقد آزرتهم القوى العسكريّة بذلك.

عندما زرنا الدير في تموز/يوليو الماضي مع وفد من الكنائس العالميّة وجدناه يعجّ بالحياة بمئات المؤمنين أتوا إليه من كلّ حدب وصوب ولمسنا عبق تاريخ المسيحيّة المشرقيّة، التي جذورها ضاربة في العمق، يفوح منه.

أمّا ما يزيد من رونق الدير فهنّ "الحجّات"، راهبات الدير، اللواتي تكتنزن في قلوبهن كلّ المحبّة التي بها أحبّ السيّد العالم وبذل نفسه من أجله.

إنّ الطيبة والحنان والورع التي تنضح من عيون الحجّات ومن تصرفاتهن تنبئك ما هي المسيحيّة المشرقيّة الأصيلة. إنّهن مدرسة بحدّ ذاتها، لا تحتاج لا إلى مناهج ولا إلى مدرّسين...تصرفاتهّن تكفي!

من علوه الشاهق يطلّ هذا الدير على ربى بلاد الشام، حيث انتشرت المسيحيّة الأولى، ويبقى شاهدًا على الزمن وعلى تجذّر المسيحيّة في أرض المشرق حيث توزّع الرسل يبشرون الناس بالكلمة الطيّبة، باسم الآب والإبن والروح القدس. هذا الدير، الذي فيه نلت سرّ العماد، سوف يبقى محجّة المسيحيين وغير المسيحيين يجمع أبناء المشرق الأنطاكي والعالم العربي. هذا الدير قد شيّد على اسم والدة الإله، الأم العذراء والأم هي التي تجمع، فكيف إذا كانت أم السيّد المتجسّد.

في النهاية، لا بد من أن نختم هذه المقالة المتواضعة بكلمات هذه الترنيمة البسيطة في كلماتها والعميقة في معانيها:   

ميلادك يا أمّ الله العذراء،
قد أذاع الفرح للعالم أجمع،
لأنّ منك أشرقت شمس الحقّ،
المسيح ربّنا.

Previous
Previous

معًا نتكاتف ونصلّي

Next
Next

فيديو - فادي الحلبي يرقص للعدالة والكرامة الإنسانيّة في الجمعيّة العامة الـ11 لمجلس الكنائس العالميّ