المعرفة والآلة والإنسان المعاصر
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
لقد حدّدت الأمم المتحدة الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر على أنّه اليوم الدولي لتعميم الإنتفاع بالمعلومات.
كم هو خطير تعبير "المعلومات" وكم هي خطيرة الأبعاد المرتبطة به، أكان على الصعيد التقني أم على صعيد تبعاتها الإنسانيّة.
نقرأ أو نسمع يوميًّا مقالات ومحاضرات عن المعلومات والمعلوماتيّة والذكاء الإصطناعي والكمبيوتر والبرمجيات والتطبيقات وتجتاح هذه المفاهيم عالمنا ويومياتنا، عدا عن انتهاكها لخصوصياتنا.
أهمية المعلومات، والمعرفة والتدوين ليست موضوع جدل، فقد رافقت هذه الحاجة الإنسان منذ بدايات الحضارة حيث اخترع أولًا الحروف المسماريّة في سومر، بين النهرين، ودوّن هذه الحروف بشكل لغة على لوائح فخاريّة، استبدلت تدريجيًّا بوسائل أكثر استدامة من ضمن هاجس الإنسان تدوين المعرفة وجعل هذا التدوين يصل إلى أكبر عدد ممكن من الأجيال اللاحقة.
مع تقدّم الحضارة، تطورت مادة التدوين ورأينا بروز الأبجديّة الفينيقيّة من بيبلوس، جبيل، وأوغاريت، رأس شمرا، وكلتاهما مدينتان فينيقيتان على الشاطئ الكنعاني الذي يصل غزة بأنطاكية.
الهاجس الإنساني بحفظ المعرفة – المعلومة – استمر بالتطور جيلا بعد جيل مرورًا بالنحت والطباعة وصولًا إلى الإختراع الذروة، الآلة التي غيرت وجه البشريّة والمسماة الكمبيوتر.
لقد مرّت هذه الآلة منذ استعمالها الأولي سنة 1956 في الولايات المتحدة وحتى أخذت شكلها الحديث الشديد التقدّم، بمراحل كثيرة ساهم فيها باحثون كثر في العالم وجلّهم يعمل في شركات متواجدة في وادي السيليكون في الولايات المتحدة الأميركيّة. إنّ المُطلِع على تاريخ تقدّم هذه الآلة المعرفيّة لا يستطيع إلّا أن يقف معجبًا أمام تطورها ومساهمة العلماء والشركات بهذا المسار.
الكمبيوتر ومشتقاته، وهنا أضع كل باقي الإختراعات التي تسيطر على أعمالنا اليوميّة، من الهاتف الخلوي الذكي إلى اللوحات التي سميت "تابلت" تيمنًا باللوحات التي اكتشفها علماء الآثار في الحضارات الأولى في منطقة المشرق الأنطاكي، التي تشمل بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين. إنّ الحفريات ما زالت مستمرّة هناك وما زالت الإكتشافات تُذهل علماء التاريخ والآثار.
الأهميّة الأوليّة لهذه الأجهزة تكمن في أنّها قادرة على تخزين كميات هائلة من المعلومات في أمكنة تزداد صغرًا. أمّا الأهميّة الأساسيّة لهذه الأجهزة فتكمن في قدرتها على فرز وتحليل وتوزيع أعداد متصاعدة من المعلومات في وقت قياسي ولعدد قياسي من المستفيدين. لقد رفعت هذه الأجهزة إنتاجيّة الإنسان عشرات المرّات، أي أكثر بكثير ممّا فعلت الآلة الصناعية بالإنسان خلال الثورة الصناعيّة.
لبّ المسألة هنا هي المعرفة من أجل اتخاذ القرار.
أخذ القرار من دون الإطلاع من أجل تكوين رأي يعني العمل من دون منهج ولا دراية. لا يمكن لأي عاقل أن يأخذ أيّ قرار في الحياة، مهما صغر شأنه، إلّا بعد أن يكون قد أحاط ولو بجزء من الموضوع. أمّا أخذ القرار من دون عناصر معرفيّة فهو لا يدخل في فئة المجازفة – لأنّ المجازفة أيضًا تحتاج إلى معرفة – بل في فئة المغامرة، التي قد لا تُحمَد عقباها.
المشكلة التي لا بدّ من التطرّق إليها ولو بشكل مقتضب، تكمن في الفجوة التكنولوجيّة بين العالم الصناعي المتقدّم والعالم الفقير أو النامي. إنّ القدرات المحدودة في الحصول على المعلومات وحسن إدارتها وحسن إستعمالها، يجعل أنّ الدول المصنّفة نامية أو فقيرة تبقى متأخرة في مواكبة الركب الحضاري وتأتي قراراتها غير مدروسة وموثقة بما فيه الكفاية، لا بل مرتجلة، أكان على صعيد الأعمال الخاصة أو تلك المرتبطة بالشأن العام. إضافة إلى ذلك، فإنّ هذه الفجوة التكنولوجيّة تتسع يومًا بعد يوم ومن الصعب أن تستطيع المجتمعات المتأخرة تكنولوجيا أن تلحق بركب التقدّم التكنولوجي.
الأجهزة الحديثة تسمّى ذكية لأنّها تختزن كما هائلا من المعلومات تجنّدها في تنفيذ ما نعهد به إليها. هي ليست أذكى من الإنسان الذي اخترعها، ولكن مسارها مختلف عنه كونها لا تخضع لا للانفعالات ولا للعاطفة ولا للنسيان. ذكاء هذه الأجهزة مرتبط الى حد بعيد بذاكرتها وبما خزن الانسان في هذه الذاكرة من معلومات.
لقد غيّرت هذه الأجهزة وجه البشريّة وأحدثت تطورًا هائلًا في مجالات عمله، من الطبّ إلى الإدارة، مرورًا بالبحث العلمي. ليس هناك أدنى شك في أهميّتها بالنسبة إلى حياة الإنسان المعاصر ولولاها لما وجد الإنترنت، هذه الشبكة المعرفيّة المترامية الأطراف والتي تغطي المعمورة وترفد الإنسان بمعارف لم يحلم بها من حفر أول الحروف المسماريّة على لوحة فخاريّة رغم أنّه وضع حجر الزاوية لها.
التكنولوجيا تركض والبشريّة تلهث ورائها. هذا ما يمكن استنتاجه من التأمّل في سيطرة التكنولوجيا على حياة الإنسان الحديث. نقول سيطرة ولا نعني بها معنى سلبيًّا لأنّ فعل التكنولوجيا على الإنسان فيه من الإيجابيات ما يفوق السلبيات بكثير والمجال الطبّي بحدّ ذاته يكفي.
من البديهي أنّ اتساع مساحات التكنولوجيا في حياتنا قد انعكس على تصرفات الإنسان المعاصر أكان في العلاقات الإجتماعيّة أم في علاقات العمل أم غيرها، ولكن السؤال يكمن هنا حول قدرة الإنسان على حسن استعمال ما قد من الله عليه به من موارد طبيعيّة وموارد إصطناعيّة. إنّها حكمة الإنسان التي تحدّد قيمة المنفعة أو الضرر الذين يمكن أن يحصلا له من جراء استعمال أيّ مورد أو عنصر. الماء التي علينا أن نشربها يوميًّا لكي لا نصاب بالتجفاف يمكن أن تؤذي جسمنا إذا تخطينا الكميّة المنطقيّة التي يجب أن يمتصها. كذلك الأمر بالنسبة إلى الغذاء والدواء وأيّ أمر آخر.
أمّا المشكلة الأخرى التي يثيرها منتقدي تكنولوجيا المعلومات فتتعلّق بخصوصيّة الإنسان تجاه المجتمع ومؤسّساته.
الجواب الوحيد على هذا الأمر هو أنّ الإنسان نفسه هو الذي يرسم الحدود التي يسمح لمحيطه أن يصل إليها. كلّ إنسان حارس لخصوصيّته وهو وحده القادر على تحديد نطاقها. أمّا نشر الخصوصيّات على صفحات التواصل الإجتماعي ومن ثم الشكوى أن هناك من انتقده فهذا من باب السذاجة. كذلك بالنسبة إلى الذين يشنّون حملات على إنسان أو موضوع ما.
هذه المنظومة التكنولوجيّة هي سيف ذو حدّين وكلّ خطأ يرتكبه الإنسان فيها أو عبرها يرتد عليه مرّات مضاعفة بسبب سِعَة انتشارها. لذلك من الضروري التصرّف برويّة وحكمة.
أمّا بالنسبة إلى القرارات التي تتخذها المؤسّسات عبر الذكاء الإصطناعي، فينطبق عليها نفس المنطق: هذه الأجهزة تساعد في اتخاذ القرار ولكنّها لا تستطيع إحلال قراراتها الآليّة مكان إنسانيّة الإنسان.
عندما تصبح المنظومات صاحبة الأولويّة في القرارات يكون الإنسان قد حرف هذه الإنجازات التكنولوجية عن مسارها. إنّ للقلب والمشاعر والقيم مكان في قرارات الإنسان وإذا أفرغت منهم استحال الإنسان آلة.
عندها تستحيل النعمة نقمة. عندها تستحيل الفجوة التكنولوجيّة بين العالم الصناعي والعالم النامي نعمة، فحذار!