عندما يُصبح الزيف ثقافة

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط 

يجترح الإنسان في يوميّاته أساليب تعامل وأنماط تصرُّف يعتمدها في إدارة شؤون حياته تأمينًا لمصالحه وحفاظًا على مكتسباته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة وغيرها.

هي آليّات صون الذات والدفاع عن النفس وقد سمّاها علم النفس "ميكانيزمات الدفاع" وهو مفهوم أضحى من بديهيّات علم النفس وليس من جدل حوله، اذ انتشر حتى في أوساط غير المتخصصين وأصبح الناس يفسّرون الكثير من التصرُّفات على أنّها تقع ضمن هذا المفهوم.

ولكن العقل البشري اجترح منذ غابر الأزمنة وسيلة تعامل مع الغير، اتخّذت شتّى الأشكال تاريخيًّا وأصبحت جزءاً من ثقافة البشر: الزيف.

الزيف ليس فقط نمط تصرُّف أو وسيلة تعامل يحتاجها من هجّروا قيم الصُدق والشفافية وأصبح لديهم الكثير كي يخفونه عن الناس، تفاديًا للعار أو للمساءلة أو للإثنين معًا، بل أصبح متجذرًا في طرق التفكير وردود الفعل.

التصرُّف الزائف ينتشر بين الناس انتشار النار في الهشيم، تزكيه وسائل تواصل لم تعد قادرة على السيطرة على ما يُنشر عبرها بعدما أصبحت ثورة المعلومات في ذروتها، والآتي أعظم.

عبر شبكات التواصل، التي تنقل لنا ما ليس بالحسبان من أنماط التصرّف، تعلّم الناس الزيف واستساغوه إذ وجدوا فيه مفرًا من أمور كثيرة لا يقبلونها، فاعتمدوه نظام سلوك اجتماعي، جرى تعميمه على شرائح كبيرة من المجتمع الإنساني الذي أصبح مجتمع الزيف رغم وجود أعداد غفيرة من الشرفاء المتمتعين بدرجة عالية من الشفافية.

الزائفون يعيشون بيننا كل يوم، يتملّقوننا ويراؤوننا. يسلّمون علينا بينما هم يودّون لو نُمحى عن وجه المعمورة، يعانقوننا والخنجر بيدهم ويسمعوننا كلام الإطراء بينما هم يلعنوننا في سرِّهم.

الزائفون يعتمدون تعابير خشبيّة تصلح لكلّ زمان ومكان، عبارات فقدت معناها من شدّة ما أصبحت مبتذلة، يظنّون – أو يتأملون – أن بها يستطيعون تمرير أساليبهم التي لا تنطلي على أحد.

الزائفون يبرّرون كل نقيصة وموبقة فيعطونها معنىً وشرعيّة غير موجودة إلّا في خيالهم السقيم. يفلسفون السيّئات التي يرتكبونها ويجتهدون في الدفاع عنها إقناعًا لنفسهم قبل إقناع الغير. هم يظنّون أنّهم بإقناع أنفسهم يقنعون الغير.

مفارقة الزمن الرديء أن الزيف هذا قد أصبح ثقافة واستّتب موقعه في المجتمع الحديث، فضرب منظومة القيم وحوّل الإنسان إلى مخلوق يستعبد نفسه حين يقنعها بأنّ هذا الزيف هو الحقيقة.

إنّه زمن عبوديّة جديد حيث يعبد الإنسان مصالحه عبر خضوعه لمتطلّبات الزيف والرياء. يشكِّل هذا الأمر نقطة انطلاق لعلاقات تكاذب بين الناس، يتلاعب عبرها كلّ انسان بمشاعر الآخر وتستحيل الحياة الاجتماعيّة بحرًا من الخبث يضيع فيه الشرفاء ويُنعتون بالسذّج.

في هكذا إطار اجتماعي قليلون هم الذين يبقون على مثالياتهم الأساسيّة فيسيرون بلا أمل ولا رجاء في حياة اجتماعيّة فاسدة تستقطب ضعفاء النفوس وتمنعهم من السير نحو النور ونحو الحق الذي معرفته هي التي تُحَرِّر.

مترافقات الزيف كثيرة، والنفاق أحدها، أنتجها الإنسان منذ بداية الحضارة وما فتئت المسيحيّة تحاربها حتى اليوم. المسيحيّة اليوم في أصعب مراحل صراعها مع هذا المنحى الإنحداري لبني البشر، منحىً يقضي على إنسانيّة الإنسان قبل أن يلغيه من الوجود. رغم ذلك يبقى أن "طوبى للمساكين بالروح. لانّ لهم ملكوت السماوات"، لأنّهم ببراءتهم الناصعة مثل الثلج يحرقون زيف ورياء ونفاق من ساروا في هذا الدرب، لانّ بعض الثلج يشتدّ صقيعه حتى ليمسي مُحرقِا.

أيضًا وأيضًا، لا ينسى المسيحيّون لحظة أنّهم ملح الأرض وأن عليهم أن يمنعوا فساد الملح بكلّ ما اوتوا من قوّة، وأنهم نور العالم وأنّهم سراج يجب أن يبقى على المنارة لكي يضيء قدام الناس، كما علّمنا السيد في موعظته على الجبل.

التحديّات كثيرة، والصراع مستمر ومن يحمل الحق في تطلعاته يصل.

Previous
Previous

معًا نتكاتف ونصلّي - عيد البشارة المجيد في الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة

Next
Next

دورات مهنيّة للشباب في دمشق وريفها