الإنتماء والتناضج الثقافي
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
منذ ولادته يجد الإنسان نفسه في حالة إنتماء، لا بل إنتماءات. فهو إبن أسرته وقد تكون عشيرته أو قبيلته أو عرقه أو طائفته أو منطقته ووطنه طبعًا، عدا عن الإنتماءات التي يستجمعها خلال تنشئته الإجتماعيّة. أمّا عندما يصبح راشدًا فتزداد أبعاد الإنتماء في حياته إذ يضيف اليها ما يتعلق بانتماءات ونشاطات شتّى، من الثقافي إلى السياسي مرورًا بشتى أنواع الخيارات الحياتيّة.
والإنتماء يقوم على العصب، وتتنوّع العصبيات بين انتماء و آخر، تبعًا لأهميّة الإنتماء عند الإنسان إذ قد يكون إنسان شديد التعصّب لانتمائه الديني بينما آخر شديد التعصّب لانتمائه السياسي. هذه خيارات حياتيّة يعتمدها الإنسان أكان بالنسبة إلى الإنتماء الذي فرض عليه بالولادة أو الإنتماء الذي اختاره بملئ إرادته.
ولكن ما لا يحتاج إلى جدل هو أنّ الإنتماءات الدينيّة والإثنيّة والعرقيّة والقوميّة وكلّ ما له علاقة بالهويّة الأساسيّة للإنسان، هي أكثر الإنتماءات التي تشدّ عصب الناس وتجعلهم ينتصبون بوجه بعضهم البعض ويدخلون في نزاعات قاتلة ومدمّرة.
المجتمعات الحديثة شديدة التنوّع، خصوصًا بفعل الهجرة الدوليّة واستقدام أيدي عاملة من العالم الذي يعاني عوزًا ماليًّا إلى العالم الذي يعاني قصورًا في يد عاملة تقبل شظف العيش والعمل في المهن المضنية.
المجتمعات الحديثة قد تكون أيضًا شديدة التنوّع بسبب تراكمات تاريخيّة من الفتوحات والهجرات وموجات الإستيطان، العفويّ منها كما المُبرمَج.
في المُحصلة، نجد أنفسنا اليوم أمام موزاييك وتنوّع ثقافيّين لا مثيل لهما في تاريخ البشريّة.
في المجتمعات الحديثة "تتواجد" و "تتعايش" مجموعات بشريّة ذات انتماءات وهويّات بعيدة عن بعضها أشدّ البعد، حتى لو كانت تعيش على أرض واحدة منذ قرون.
بسبب العصبيّات التي تصلّبت عبر التاريخ، وبسبب التنابذ بين المجموعات غير المتجانسة لا دينيًّا ولا ثقافيًّا، استطاعت هذه المجموعات، التي احترفت الإنغلاق على نفسها، أن تتمايز عن المجموعات الأخرى إلى درجة الغربة التامّة والتناقض الذي لا مخرج منه.
عندما ترى أنّ مجتمعات عريقة في الحضارة الإنسانيّة أضحت فديراليّة جماعات إثنيّة وعرقيّة ودينيّة، تسأل نفسك كيف لم يندمج هؤلاء الناس الذين يحيّون على نفس الأرض منذ مئات السنين.
الجواب بسيط: إنّه التعصّب والتمييز ورفض الآخر وتكفيره أو رميه بالأحكام المسبقة أو نعتِه بالصفات السيّئة. هذا ما درجت علوم الإنسان على تسميته أخيرًا "خطاب الكراهية" والذي تنشط المؤسّسات العاملة في مجالات الحوار وحقوق الإنسان في محاربته.
من حكمة الخالق أنّه أعطى للناس بصيرة وعقلًا وحكمة جعلهم يتعلّمون من دروس الماضي ويعيدون النظر في الكثير من الممارسات التي حكم عليها التاريخ بالإلغاء.
البشريّة اليوم تعيد النظر بتاريخها وتشجب وتنتقد وتطلب السماح لكثير من ممارسات الأجداد بدءا بالفتوحات والحروب وصولًا إلى السبيّ والإستعباد وتجارة الرقيق. إنّها أيضًا تحارب الأشكال الحديثة منها.
البشريّة اليوم، في جزء كبير منها، إعتنقت عقيدة المساواة وحقوق الإنسان ومساعدة الضعيف وعدم مهاترة من يختلف عنّا وخصوصًا، الحفاظ على الكرامة الإنسانيّة.
البشريّة اليوم هي نتاج الوعي والتواصل والمعرفة والقبول بالإختلاف والإنفتاح على الآخر وتقبّله كما هو، دون محاكمته أو الحكم عليه، تحت سقف تطبيق القانون طبعًا.
بسبب كل ذلك، نرى بروز ظاهرة اطلقتُ عليها منذ اكثر من عقدين إسم "التناضج" واستعملت باللغات اللاتينية تعبير Osmo-symbiosis.
يحصل التناضج عندما تحيا جماعات مختلفة على عدّة صعد، الديني والإثني وغيرهما، حياة موحّدة المصالح، موحّدة الأهداف في كنف مجتمع واحد ودولة واحدة، تحت سقف سِلم أهلي ضمانته تطبيق القوانين.
يكون التناضج نتيجة حتميّة لتفاعل الناس مع بعضها البعض في حياتها اليوميّة، فتكتسب خصائص من بعضها البعض وتتبادل بعض الممارسات الحياتيّة وبعض الصفات الثقافيّة.
ينتج عن ذلك معرفة متبادلة بين هذه الجماعات ولا تعود لا عادات ولا تقاليد ولا عقليّة احدى الجماعات غريبة أو ممقوتة عند الجماعات الأخرى.
عندها يبطل الإنسان عدوّ ما يجهل ويدخل في جوّ احترام خصائص الآخرين الثقافيّة حتى لو لم يكن مقتنعًا بها.
إنّ معرفة الآخر هي نصف الطريق نحو قبوله أو التصالح معه. عندها تعمّ ثقافة رفض التمييز والعنصريّة وكافة أنواع العصبيّات الهدّامة. عندها يُرذل أيّ إنسان وتُرذل أيّة مجموعة قد يستسيغون الدخول في مغامرة تهميش أيّ من مكونات المجتمع.
ولكن مسار التناضج هذا يحتاج إلى مجموعة من الشروط لتأمين حصوله ونجاحه واستمراره.
إنّه يحتاج أولًا إلى دولة قويّة عادلة وحازمة تطبّق القانون وتقيم المساواة بين الجميع. وهذا الشرط هو الضمان للشرطين التاليين.
إنه يحتاج ثانيًا إلى مناهج دراسيّة موَحّدة موحِّدة للمجتمع عبر توحيد النشئ.
إنّه يحتاج ثالثًا إلى إعلام أخلاقي يتوخّى السلم الأهلي ووحدة المجتمع.
إنّه يحتاج إلى أن يدوم السلم الأهلي، المناخ المحفّز على التناضج، أطول فترة ممكنة، لكي يحل الرابط الإجتماعي مكان العصبيّات الممزّقة للمجتمع، أي أن يحل العقد الإجتماعي مكان أي عقد آخر.