لبنان، الشعب المستسلم والجزار المتمادي وبصيص الامل

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

يحتوي الأسبوع الحالي على مناسبات ثلاثة مهمة جدا وخطيرة في حياة البشر ومسار الحضارة الإنسانية.

يوم التاسع من كانون الأول/ديسمبر هو اليوم الدولي لإحياء ذكرى ضحايا جريمة الإبادة الجماعية وتكريمهم ومنع هذه الجريمة، كما هو اليوم الدولي لمكافحة الفساد. اما اليوم التالي فهو يوم حقوق الانسان.

كم هي جليلة هذه التواريخ والوقائع التي تتعاطى معها وكم تنطبق هذه المناسبات على لبنان، البلد المثخن بالجراح الذي يعاني شعبه الامرين وما برح ينتظر الفرج يأتيه من حادث جلل او من اعجوبة الهية تزيح عنه الحجر الذي يثقل كاهله.

مواضيع المناسبات الثلاثة تنطبق على لبنان.

الشعب اللبناني يخضع منذ سنوات لإبادة جماعية على كل الصعد وبشتى الوسائل.

الدواء المقطوع او المغشوش او المزور او المنتهية صلاحيته يفعل فعله بصحة الناس.

تضاف الى ذلك المياه المقطوعة عن المنازل او الملوثة بفعل اختلاطها بالمجارير واقنية الصرف الصحي التي لم تخضع لأية صيانة منذ سنوات. هذه المياه، يشتريها اللبناني عبر صهاريج الشركات الخاصة بدل ان تأتيه عبر اقنية توزيع المياه العامة في البلاد.

يضاف الى ذلك مولدات الكهرباء المزروعة في الاحياء السكنية والقرى، تلوث هواءه وتنفث سمومها في الحناجر والروايا إضافة الى الضجيج الذي تقض مضاجع الناس الصابرين به. هذه المولدات هي نفسها التي تفرغ جيوب الناس وتجعا ان اضاءة المنزل تكلف أكثر من الغذاء والدواء والمسكن نفسه أحيانا. كل ذلك لان الدولة "وعدتنا" منذ فترة طويلة "العتمة الشاملة" وقد صدق الوعد ونحن في ظلام دامس منذ فترة طويلة.

وكأن ذلك لا يكفي، تأتيك نوعية المحروقات السيئة التي تسبب كل اشكال الأذى للبيئة اكان عبر محروقات السيارات او المولدات او المصانع. على اللبناني ان يقبل بأسوأ أنواع المحروقات وبأغلى الأسعار والا فإن حياته في شلل تام.

ثم يأتي دور البيئة التي دمرها اللبنانيون وهي من أجمل البيئات في العالم والطفها مناخا. المصانع المتبقية على قيد الحياة في البلاد تعيث فيها فسادا، وما لا تقوم به المصانع يتكفل به الناس الفاسدون في غياب تام للدولة وأجهزتها الرقابية والقمعية.

اما العبء الإضافي على البيئة فهو النفايات، المنزلية منها والطبية والصناعية. ليس في لبنان أي خطة او برنامج يعنى بإدارة النفايات وكل ما يجري هو مبادرات فردية قام بها متطوعون همهم حماية الطبيعة او رجال أعمال يبحثون عن الربح، ولكن في كلتا الحالتين ليس ما يخفف عن طبيعة لبنان الجميلة عبء النفايات.

اما المشكلة المتفرعة عن سوء إدارة شؤون البيئة فتكمن في تسرب النفايات بفعل الشتاء الى المياه الجوفية اللبنانية، المعتبرة الأكثر غزارة في الشرق الأوسط، هذه المياه المهدورة والتي يشتريها اللبنانيون بأسعار باهظة وكأنها مستوردة من الخارج.

اما القطاع المصرفي فلم يتلكأ عن المساهمة بأذية واذلال اللبنانيين، فقد خطف جنى عمرهم وحولهم الى متسولين لمدخراتهم، يقفون صفوفا طويلة امام المصارف للحصول على ما تتكرم به هذه المصارف عليهم. لا العمليات الجراحية ولا ضرورة ارسال أموال الى الطلاب اللبنانيين في الخارج ولا ارسال الأموال الى الاهل العجزة تشكل أسبابا يمكن ان تجعل قلوب المصارف تحن وتتكرم على اللبنانيين المستعطين اموالهم.

اما التجار، مستوردو او مصنعو مواد الاستهلاك فقد أحسنوا القبض على لقمة عيش اللبنانيين، فهم من جهة يدفعون لهم رواتب مزرية لا تكفيهم سوى عدة أيام للاستهلاك و، من جهة أخرى، يرفعون الأسعار بشكل جنوني متذرعين بانهيار سعر صرف العملة الوطنية. انهم شركاء المصارف في الاطباق على ما تبقى من كرامة وسبل حياة عند اللبنانيين.

اما مؤسسات الدولة فهي في شلل بنسبة كبيرة ولولا صمود القوى الأمنية في البلاد لتحولت المدن والقرى الى ساحات حرب للحصول على المال والغذاء والدواء.

مسكين هذه الشعب، يئن ولا يغير، لا بل لا يقوى على التغيير اذ كلما حاول ذلك هددوه او اغرقوه في فتنة طائفية لا تبقي ولا تذر. لقد أصبح هذا الشعب مصابا بملازمة العجز المكتسب (acquired helplessness syndrome)، ولم يعد عنده أي امل بالتغيير او الخروج من هذا الفخ المحكم.

اما البطالة فحدث ولا حرج. الوف الموظفين يصرفون ويهاجرون بحثا عن كرامة قبل لقمة العيش. لقد بلغت الهجرة نسبا عالية وأصبح المجتمع اللبناني ديموغرافيا في خطر اذ تدنت نسبة الشباب الى مستوى لم تصله في تاريخ لبنان القريب والبعيد. اللبنانيون لا يهاجرون فقط عبر الاقنية الشرعية، انما أيضا عبر مراكب التهريب التي يتعهدها قراصنة ويغرق منهم من يغرق.

اما على الصعيد النفسي والقيمي او المناقبي او الأخلاقي، فلا يسعنا الا ان نذكر الارتفاع في معدل استهلاك الكحول والدخان والمخدرات، تضاف اليها نسب الجريمة والانتحار والعنف المنزلي وتفكك الاسر والقائمة تطول.

هذا غيض من فيض من معاناة اللبنانيين وحالهم وواقعهم. الحياة في لبنان أصبحت امر من العلقم وأصبح كل من استطاع الخروج من البلاد من الناجين من الابادة اللبنانية.

تنطبق علينا اليوم في لبنان المناسبات الثلاثة التي اوردناها في مستهل المقالة.

نحن في حالة إبادة جماعية...نحن ضحايا هذه الإبادة الذين ينتظرون ساعتهم.

نحن ضحايا الفساد الذي تشترك به الفئات الحاكمة مع القطاع الخاص ويتناوبون على امتصاص دماءنا.

نحن نحتاج، أكثر من اية منطقة أخرى من العالم، الى ان تصان حقوقنا الفردية والجماعية المهدورة من قبل من اؤتمن علينا وعليها.

ان قدرة اللبنانيين على الصمود ومرونة شخصيتهم وكفاءاتهم ودرايتهم العاليتين قد وصلت الى الحدود القصوى وقد نشهد اشكالا جديدة من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي سوف تؤشر الى التفكك النهائي للبنى الاجتماعية-الثقافية في لبنان وصولا الى ما لا تحمد عقباه.

صحيح اننا شعب طائر الفينيق، هذا الذي يبعث من رماده من جديد،

صحيح اننا أبناء القيامة وأبناء الرجاء وأبناء الامل،

صحيح ان الشطارة اللبنانية المتمثلة بالمبادرة الفردية وحرية الفكر والعمل ما زالوا موجودون ونراهن على ان يفعلوا فعلهم ويجعٍلوا ان تقوم البلاد من كبوتها،

ولكن، كما يقول المثل الشعبي في لبنان، نريد بعد الشقاء بقاء!

Previous
Previous

معًا نتكاتف ونصلّي - عيد مريم العذراء المحبول بها بلا دنس (الكنائس الكاثوليكيّة)

Next
Next

فيديو - الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط البروفسور ميشال عبس يحاضر في معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللّاهوتي