الفساد: القاتل الصامت للثقافة والمجتمع
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
تطالعنا الصحافة ووسائل التواصل الإجتماعي بمقالات ومناشدات من أجل مكافحة الفساد والقضاء عليه من أجل صلاح المجتمع وأحوال العباد. ويتعامل الكتّاب أو أصحاب التغريدات والتصريحات مع ظاهرة الفساد وكأنّه ثمرة قد أينعت وحان قطافها وهي حاضرة لمن يمدّ يده إليها لسحقها.
لقد فات هؤلاء المعرفة الكثيرة من علم الإجتماع ومن تحليل الظواهر الإجتماعيّة، ونسوا أنّه عندما تعتاد الناس على أمر ما فإنّ إزالته لا تتمّ بمرسوم ولا بأمر تصدره مراجع تقريريّة إلى مراجع تنفيذيّة. لو كان الأمر كذلك لاعتبرنا أنّ المجتمع آلة، يكفي أن تغير فيها القطعة المهترئة فتعود للعمل بالشكل المناسب.
لقد أضحى الفساد في لبنان، وفي الكثير من مجتمعاتنا في العالم العربي، ثقافة ضاربة في عمق الذهنية على الصعيد الفردي كما على الصعيد الجماعي وتاليًا، فإنه ليس من الممكن ولا من المعقول القضاء عليها بين يوم وآخر، خصوصًا أنّها متجذرة في عقولنا ونفوسنا منذ قرون.
ما يجب أن يكون واضحًا، من ضمن انتفاء القدرة على المحاربة الميكانيكية للفساد، هو أنّ التعامل مع الفساد لا يكون بمنطق "إمّا فساد أو لا فساد"، فالأمر ليس إمّا أسود أو أبيض. إنّ الأمر يحتمل مساحات رمادية قد تدوم فترة طويلة قبل الوصول إلى مساحات اجتماعيّة خالية من الفساد. إنّها حرب ثقافيّة وحقوقيّة وتربويّة في آن، من ضمن سياسة حكوميّة مستدامة تطبق بلا هوادة من قبل نخب مشهود لها بالإستقامة. ولكن السؤال التحدّي الذي يطرح نفسه هنا هو: من أين نأتي بهذه النُخب؟
إنّ إنشاء مؤسّسة حكومية، وزارة أو مديريّة عامة أو ما شاكلها، يناط بها مكافحة الفساد، لن يزيد إلا أعباء على ميزانية الدولة ومؤسّسة إضافية تلتهي بمشاكلها الإدارية والمالية وتنسى الهدف الذي من أجله أنشئت.
إنّ محاربة الفساد هو نضال يحتاج أن "يتغلغل" في كلّ مفاصل المجتمع، من مؤسّساته العامة إلى مؤسّساته الخاصة وصولًا حتى إلى المدارس الإبتدائيّة. إنّه نضال تتحالف فيه كلّ قوى المجتمع الشريفة لأن مصير المجتمع على المحك لما للفساد من قدرة على تدمير الثقافة والبنى الإجتماعيّة وصولًا إلى الرأسمال الإجتماعي.
ولكن لا يجب أن ننسى أمرًا هامًا في مسألة رفع مستوى الإستقامة والشفافية ومحاربة الفساد: إنّ الحماية التي يحظى بها الفاسدون والغطاء الذي تلتف به ممارسات الفساد يجعلون منه ظاهرة نسمع عنها ولا نراها إذ لن يجرؤ أحد على إرشاد المراجع المعنيّة إلى الفاسدين أو تقديم دليل حسّي حول أية ممارسة فاسدة. بفعل ذلك يتحوّل الفساد إلى شائعات وتنتفي أية جدّية في التعاطي معه.
أمّا التضليل الذي يطال ظاهرة الفساد فذروته تكون عندما يقوم أناس مشكوك بأمر شفافيتهم بإلقاء الخطب والتصريحات حول مساوئ الفساد وضرورة الحدّ منه والإقتصاص من الذين يتعاطون به. عندها يسأل المواطن العادي نفسه من هو المنافق، أهذا الذي يصرّح أم ذاك الذي اتهمه؟ من دون ملفّات تتضمن وثائق واثباتات دامغة، ليس من المقبول إلقاء التهم جذافًا على الناس، خصوصًا على من هم في الحقل العام، إذ يدخل ذلك في خانة تدمير السمعة والترويج للأخبار الكاذبة. عندها، يتحوّل الفساد ومكافحته أداة سياسيّة في وقت نحتاج أن يكون الأمر خارج السياسة.
إنّ التقهقر الإقتصادي الذي تشهده بعض مجتمعاتنا هو السبيل الأسهل للترويج للفساد ورفع منسوب المحسوبيات وعمقها ورمي الناس المصابة بالعوز في أحضان مرجعيات الإقطاع السياسي. لذلك، تشكّل المرحلة الحالية في مجتمعاتنا، المرحلة التي استشرى فيها الفساد بشكل غير مسبوق في تاريخنا حيث نشهد أيضًا انهيارًا غير مسبوق لمنظومة القيم وانتفاء الثقة بين أبناء المجتمع الواحد، لا بل بين أبناء الأسرة الواحدة.
يشكل الفساد وسيلة تفكّك قيمي واجتماعي وقد استعمل من قبل دول برعت في استخدامه من أجل تدمير مجتمعات أخرى هدفت إلى تدميرها.
إضافة إلى ذلك، يرقى إلى مستوى الخيانة إذ أنّ الذي يبيع ضميره وشرفه وأخلاقه، ويساوم على قيمه ومثله التي أورثه إياها المجتمع، قادر على الذهاب إلى أبعد من ذلك وتاليًا، تشكيل تهديد لمجتمعه.
إنّ محاربة هذه الآفة تحتاج إلى برامج تربوية منذ الصفوف الأولى وصولًا إلى الجامعة، إضافة إلى تشريعات مناسبة تدين الفاسدين وتحمي الذين يرشدون إليهم خصوصًا إذا كانوا مزوّدين بوثائق، إضافة إلى شرعة وطنيّة لمكافحة الفساد تعمّم على كافة شرائح المجتمع وتصبح جزءًا لا يتجزّأ من الوجدان الإجتماعي للأمة.
لقد انتفض السيّد المتجسّد، العصي على الفناء، على الفساد منذ ألفين، إذ "أخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل"، "وقلب موائد الصيارفة، وكراسي باعة الحمام"،
"ووبَّخ الناس بشدة قائلًا: "مكتوب بيتي بيت الصلاة يُدعى. وأنتم جعلتموه مغارة لصوص" (متى 21: 12، 13).
هذه مسؤوليّة إضافيّة ملقاة على عاتق الكنيسة، التي تحتضن ملح الأرض، والتي بهم تنير العالم. الكنيسة مدعوّة أولًا لمحاربة الفساد بما أوتيت من قوة وثانيًا الترويج لثقافة الشفافية ورفض الفساد بحكم قدراتها التعليميّة والتوعوية عبر الوعظ. الكنيسة مدعوة لأن تكون قدوة في هذا المجال أيضًا، إلى جانب شتى المجالات المعنيّة بالنفس البشريّة وبالكرامة الإنسانيّة.
وللبحث صِلة.