إنّهم كبارُنا

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

إنّهم كبارنا، سندياناتنا العتيقة، مخزن ذاكرتنا ومخزون حكمتنا. إليهم نلجأ في الملّمات وبرأيهم نسترشد إذ يغدقون علينا ما أوتوا من تجارب وحكمة وبعد نظر سدّدوا ثمنه للدهر غاليًا.

يسمّونهم المسّنون، ومنهم من يسمّونهم العجزة، ولطفًا يسمّونهم العُمر الثالث. إنّها الفئة الأكثر تعرّضًا وضعفًا وتهميشًا. إنّها الفئة التي يظن بعض المجتمع أنّه لا يحتاجها ولن يحتاجها فيهملها ولا يكترث لها.

رأينا بعضهم يجوب الشوارع، يشحذ الضمائر لإستدرار عطف يأتي لمامًا، وبعضهم الآخر يبحث عن قوت في مستودعات القمامة، والبعض الآخر مرمي في أسِرّة مآوي العجزة، كما درجت التسمية في لبنان وبعض بلاد العرب وبعضهم الآخر يجوب مطاعم الوجبات الساخنة التي تنشئها بعض الجمعيات فيقتات ما استطاع ويخبئ ما استطاع في علبة جلبها معه علّ ذلك يقيه شرّ الجوع ليومين أو ثلاثة. أمّا الأوفر حظًا بينهم فهو من حظي خلال حياته بوظيفة ذات تقاعد في نهاية الخدمة، فأمّن شرّ الذلّ والعوز والتشرّد، لأنّ تعويضات نهاية الخدمة تستنفد خلال سنوات قليلة بعد تقاضيها.

إنّ المجتمع الذي يسمح بامتهان كرامة كباره لا يمكن وصفه إلّا بالعَقوق، عُقوق سياسي يؤدّي إلى عُقوق إجتماعي وإنساني.

السؤال الأول الذي يتبادر إلى باحث في علم الإجتماع عمل مع العجزة لعقود هو: أين هم أولادكم؟ أين هم من صرفتم العمر على تربيتهم وتعليمهم وإطلاقهم إلى الحياة؟

وتأتيك أجوبة أقلّها مهين وأكثرها موجع. إنّه التخلّي التام عن المسؤوليات على المستوى العائلي. هذه هي الدرجة الأولى.

أمّا السؤال الثاني الذي يتبادر إلى الذهن فهو: أين الدولة؟ أقول الدولة ولا أقول الهيئات الأهليّة لأنّ التعامل مع المسنّين أمر يحتاج إلى سياسة إجتماعيّة تتخطى بكثير قدرات الهيئات الأهليّة. تستطيع أن تكون هذه الهيئات مساعدًا أو سندًا أو مسهلًا لسياسات العمر الثالث التي هي مناطة حكمًا بسياسة حكوميّة للحفاظ على كرامة من سلّمنا مقدرات المجتمع.

في لبنان وبعض بلاد العرب الأجوبة معروفة سلفًا ولا تحتاج لا إلى استطلاع ولا إلى استقصاء.

إنّ الإهمال الذي يصيب الفئة الأضعف في المجتمع ليس إلا نموذجًا من الوهن الذي أصاب كافة بنى المجتمع والعلي القدير فقط يعرف متى تأتي نهاية النفق.

تشير الإحصاءات إلى أنّ أعداد المسنّين إلى ازدياد على الصعيد العالمي، فماذا حضرنا لذلك نحن في مجتمعاتنا؟ هل نحن حاضرون للتعامل مع الأعداد المتزايدة الوافدة إلى عالم العُمر الثالث؟  

في مادة علم اجتماع العمل التي درّستها لأكثر من ثلاثين عامًا في الجامعة، أطرح إشكاليّة إطالة عمر الناس بفضل التقدّم الطبي مقابل عجز المجتمع الإنساني عن التعامل مع الأعداد الوفيرة من المتقاعدين الذين ما زالوا سليمي العقل والجسم والذين رمتهم المنظومة القانونيّة خارج إطار العمل.

هناك مجتمعات قد حلّت هذه المشكلة إذ وجدت مجالات عدّة يستطيع المسّن القادر على العمل الخدمة فيها...ولكن ذلك يشترط وجود نظام تقاعد يقي المسّن شرّ العوز ويؤمّن له العناية الصحيّة. لا ينطبق هذا الأمر على المجتمعات التي يبحث مسّنوها عن بقايا الطعام في قمامة الشوارع أو المرميين في مآوٍ للعجزة تفوح منها روائح الإهمال والتلوّث والمرض وهي ليست سوى مؤسّسات جلّها امتهن التجارة بأوجاع الناس ومآسيها.

نحن في بلادنا بعيدون جدًا، أكثر مما نتصور، عن هكذا أوضاع أو هكذا سياسات. نحن في بلداننا أولوياتنا عوجاء نمارس الداروينية الإجتماعية دون أن نسمّيها، ذاكرتنا ضعيفة وأضعف منها ضمائرنا.

إنّ تحدّي حسن "إدارة" العمر الثالث لا يقلّ أهميّة عن أيّ تحدٍّ أخر يصيب الفئات المعرّضة في المجتمع مثل المعاقين وأطفال الشوارع وغيرها من فئات المجتمع.

إنّ التصاعد الديموغرافي لا بد له أن يزيد من مشاكل المجتمع إذ تزداد المشاكل وتتنوّع ولكن هذا الأمر لا يحلّ بمؤسّسات قصيرة النظر ومنعدمة الوجدان يرسم سياساتها سياسيّون أقصر نظرًا وأكثر انعدامًا للوجدان.

في بلادي لا يكرّم الجميع أباه وأمه وهناك من يقول لهما "افٍ وينهرهما" بدل ان "يخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة وأن يقول ربّي ارحمهما كما ربياني صغيرًا."

 

****************

يوم الخميس التاسع والعشرين من أيلول/سبتمبر عقدت الندوة الثالثة في سلسلة الندوات التي ينظمها مجلس كنائس الشرق الأوسط من ضمن برنامجه حول الرأسمال الإجتماعي والكرامة الإنسانية وكان موضوعها المسّنون.

حاضر في الندوة محاضرين من ذوي الإختصاص، مديرة جامعة الكبار في الجامعة الأميركية في بيروت ومستشارة في قضايا التعمير بالإضافة إلى رئيس جمعية قدامى الجامعة اللبنانيّة وقد سبر المحاضران غور موضوع الشيخوخة والتقاعد وحماية المسنين والحفاظ على سلامتهم وكرامتهم.

من الواضح، من خلال المحاضرتين ومداخلات الحضور بعدها، أنّ الشيخوخة والمسّنين وحاجاتهم ومشاكلهم هي آخر هموم الكثير من مجتمعاتنا ودولنا ولو لم تحتوي ثقافتنا الشعبيّة وقيمنا على أبعاد أساسيّة لحماية المسّن والإهتمام به لرأينا العجب ولكان عدد المسّنين الذين يستعطون ويتجمعون في المراكز التي تقدم الوجبات الساخنة لهم، أكثر بكثير.

إنّ التعامل مع المسّنين ورسم سياسات احتضان لهم ليس إلّا بعدًا واحدًا من سياسات الدول في تنظيم اليد العاملة والمهن وتاليًا أنظمة التقاعد التي تمول هذا الإحتضان. من المفترض أن يكون الإنسان، الذي عمل كلّ حياته بجهد، قادرًا على تمويل فترة ما بعد التقاعد مع دعم لا بدّ منه من قبل القطاعين العام والأهليّ.

إنّ قطاع المسّنين هو قطاع ذو عجز مالي دائم، أي أنّه ليس من المتوقع أن يكون مدرًّا للدخل أو أن يصبح ذو اكتفاء ذاتي، لذلك لا بدّ من دعم مالي له وبشكل دائم وهذا الدعم يكون جزئيًّا من برامج التقاعد وجزئيًّا من الدعم الحكومي.

لقد أدرجنا موضوع المسّنين من ضمن رؤيتنا لمسألة الكرامة الإنسانيّة وبناء التماسك الإجتماعي وصولا إلى مجتمع يعيد بناء رأس ماله الإجتماعي ردًّا على التفكك الذي أصاب منطقة المشرق الأنطاكي منذ حرب لبنان ونتائجها المدمّرة على الصعيد القيمي وهو ما تكرّر في المجتمعات المجاورة وقد يصيب مجتمعات أخرى أيضًا.

سوف تستمرّ هذه الندوات لمدّة عام نكون خلالها قد تعاملنا مع مختلف الظواهر التي تعاني منها مجتمعاتنا والتي تمسّ وتؤشّر إلى وضع الكرامة الإنسانيّة التي حوّلناها في المجلس إلى مشروع وليس إلى شعار نرصّع به بياناتنا علمًا أنّ بعد الكرامة والتعامل بكرامة موجودين في عمق برامجنا مستلهمين بذلك ما قاله وعمله السيّد خلال تجسّده وحياته بيننا على الأرض.

Previous
Previous

معًا نتكاتف ونصلّي

Next
Next

فيديو – العائلة المسكونيّة تصلّي في ختام "موسم الخليقة" في بكركي