حرية المعتقد وكرامة الإنسان وإنسانيته

كلمة د. ميشال عبس خلال محاضرة سيادة المطران فيليب مونتستيفين في بيروت

في التالي نصّ الكلمة الّتي ألقاها الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال عبس بعنوان "حرية المعتقد وكرامة الإنسان وإنسانيته"، وذلك خلال محاضرة لسيادة المطران فيليب مونتستيفين، أسقف ترورو، ومؤلّف إصدار FCDO المستقلّ حول المسيحيّين المضطهدين، والتي كانت بعنوان "لماذا تُعتبر حرّيتنا الدينيّة مهمّة؟". علمًا أنّ المحاضرة عُقدت يوم الخميس 13 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2022، في قاعة فرنسوا باسيل، حرم الإبتكار والرياضة في جامعة القدّيس يوسف، وكانت من تنظيم مجلس كنائس الشرق الأوسط بالشراكة مع جمعيّة الكتاب المقدّس وكليّة العلوم الدينيّة في جامعة القدّيس يوسف.  

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

انطلاقا من مسلّمة ان لا شيء يعادل الحرية بالنسبة الى الانسان اكلمكم عن حرية المعتقد.

يزخر التاريخ البشري بكل اشكال التمييز والاضطهاد الدينيين، منذ الخلاف على عبادة الاوثان الى الحروب الدينية الحديثة التي استخدمت فيها أحدث تقنيات الفتك والتواصل والتضليل.

ان يكون هناك اضطهاد ديني في غابر الأزمنة، عندما كانت البشرية تتلمس طريقها نحو اكتشاف الخالق كما نحو التحضر، فهذا امر طبيعي. ولكن ان نشهد اليوم، في القرن الواحد والعشرين تمييزا دينيا وطائفيا مضافا الى اشكال تمييز أخرى منها العرقي والعنصري، فهذا يؤشر الى ان البشرية ما زالت مأزومة او انها تعود القهقرة.

المجتمع الحديث اليوم هو تركيبة شديد التنوع بحكم الهجرات الدولية التي تذهب في كل الاتجاهات، لتجعل المجتمعات الحديثة موزاييك اثني وعرقي، وحكما ديني، لا مثيل له في التاريخ البشري الجلي. من هنا نرى غزارة الإنتاج الفكري حول إدارة التنوع والمواطنة الحاضنة لهذا التنوع لان المعنيين بالمصير الإنساني قلقون حول مأل الأمور في هذه المجتمعات التي تعد بمئات الملايين والتي تحتضن عشرات المجموعات البشرية والدينية المختلفة بالأصول واللون والعرق والدين.

لقد تأسست خلال العقود العشرة المنصرمة مئات الهيئات الحكومية وغير الحكومية، الدولية منها والمحلية، واُنتجت عشرات الشرع والوثائق التاريخية التي تحث على احترام معتقد الأخر وقبوله، كما أنتج الفكر الإنساني عددا لا حصر له من المؤلفات والدراسات والمقالات حول هذا الموضوع، ولكن، على ضوء التقارير التي تصلنا حول التمييز والاضطهاد الدينيين في العالم، يتنين لنا ان كل هذه الجهود لم تؤتي النتائج المرجوة.

اننا نشهد تصاعد خطابات التعصب والتزمت والكراهية والتمييز بشكل مضطرد، وتساعد على ذلك شبكة الانترنت المترامية الأطراف والتي لا مجال لضبطها. ومهما حاولت إدارات مؤسسات التواصل ضبط الامر فأنها تبقى متأخرة بالنسبة الى تفشي هذه الخطابات بين الناس واستقطابها و"بلورة" أفكار الجماعات العصبية نحو رفض الأخر ورذله.

هذه الشبكة نفسها تنبينا يوميا ايضاً بما لا يسر ولا يطمئن.

نقرا يوميا عن احداث لها طابع الاضطهاد الديني وينتج عنها أحيانا قتلى وجرحى ودمار وتشرد، وذلك في الكثير من مناطق العالم. والجدير ذكره ان هذه الاحداث لا تحمل الطابع الديني فحسب، بل الطابع الاثني او العرقي او الشوفيني ايضا، وهذا امر لا يبشر بالخير.

البشرية إذا في سباق محموم بين الخير والشر، بين المحبة والبغضاء، اذ نجد انه مقابل تصاعد نشاط المؤسسات التي تعمل لتطوير التفاعل والحوار بين الناس، هناك تصاعد لنشاط من يعمل على هدم الإنجازات الثقافية القيمية التي بنتها البشرية خلال قرن من الزمن، والتي جرى التحضير لها لقرون سبقت من خلال كتابات المتنورين.

ان يضطهد انسان بسبب أي امر ما، اكان دينه ام عقيدته السياسية ام جنسيته ام انتماءه الاثني، في زمن الاعجازات العلمية ووسائل التواصل المتقدمة، ففي ذلك ما يستدعي العمل الحثيث على معالجة الامر وبشتى الوسائل المتاحة.

ان المسؤولية الأولى تقع على عاتق الدول التي، اما انها سنت تشريعات تحض على التمييز والكراهية، او انها لم تجترح السياسات الناجعة لمحاربة هذه الظواهر بما فيه الكفاية. ان محاربة التمييز بشكل عام، وهو جزء من بناء المواطن ذو المواطنة الكاملة والحاضنة للتنوع، يحتاج الى منظومة متكاملة تشمل التشريع والاعلام والتربية. دون ذلك حرب أهلية تحصل كل نصف قرن، فلا تبقي ولا تذر.

تجربتنا في لبنان عامة كلبنانيين، وتجربتي من خلال العمل التنموي المسكوني كما من خلال اللجنة الوطنية الاسلامية المسيحية للحوار أظهرت انه من الممكن الحؤول دون توسل الدين في السياسة في الكثير من الحالات ولكنها تبقى محدودة دون برنامج حكومي هادف وطويل الأمد. ما يساعد في ذلك هو التنوع الذي يتميز به لبنان ومناخ الحريات العامة، رغم بعض الشوائب التي تعتريه.

لقد قدم الينا في اللجنة الكثير من الوفود الاوروبية يستشيروننا عن أساليب وأليات الحوار التي نعتمدها على اعتبار ان التجربة اللبنانية بحد ذاتها رائدة، فكان محور جوابنا ان البنى الاجتماعية- الدينية الاثنية في لبنان هي قاعدة عملنا وحياة التفاعل التي يعيشها اللبنانيون منذ عقود هي الضامن لنجاح عملنا. لقد أطلقت على لبنان عدة تسميات ولكن افضلها كان المايكركوسم فهي تختصر كل ما نريد ان نصف لبنان به. انه، بالنسبة الى التنوع في العالم، المختبر او النموذج – البايلوت – وما ينجح في لبنان يمكن تطبيقه في امكنة عديدة من العالم.

 اما تجربة "بيت العيلة" المصرية فهي تجربة رائدة دعمتها الحكومة المصرية بسياسة طويلة الأمد تهدف الى بناء المواطنة الكاملة الحاضنة للتنوع. بيت العيلة المصري مؤسسة تضم الكنيسة القبطية والازهر على مستوى القيادات، يعملون على تفادي النزاعات الدينية او منع تفاقمها حين تحصل. لقد نجحت هذه المعادلة في لجم النزاعات الدينية التي استشرت في مصر في الحقبة الماضية وقد شهدنا انحسارا ملحوظا للاعتداءات ذات الطابع الديني.

نحن اليوم، في مجلس كنائس الشرق الأوسط، نستعد لتأسيس دائرة الحوار والتماسك الاجتماعي التي تهدف الى إطلاق مشاريع تتوخى إعادة بناء الرأسمال الاجتماعي المدمر في مجتمعاتنا بحكم النزاعات والافقار وسوف تكون باكورة مشاريع هذه الدائرة في لبنان والعراق ومصر.

 نحن كمؤسسة مسكونية ننطلق من ان نعرف الحق والحق يحررنا، لذلك نتطلع الى مجتمعات سوية، يحيا فيها المواطنون حياة كريمة، لا يشعر فيها أي منهم لا بالاضطهاد ولا بالتهديد، لا المعلنين ولا الصامتين.

نحن نتوق الى ان يكون مال قيصر لقيصر ومال اللّه لله، فيدخل الناس في علاقات موضوعية، معاييرها لا تتقبل لا التمييز ولا العنصرية بل الروابط الاجتماعية الطبيعية حيث تصبح العلاقات بين اتباع مختلف الديانات لا تعايش ولا تسامح بل تقبل واحترام للفروقات بين كل اشكال الانتماء. في بلداننا الطريق طويل ووعر لان قوى الشر تتسلح بشتى الذرائع من اجل ان تمنع أبناء النور من السير في مجتمعهم نحو شاطئ الأمان والتقدم.

التحدي كبير ولكن الارادات صلبة ولا بد من متابعة المسير نحو الحرية، الضمان الأول للكرامة.

من ضمن هذا السياق، نستمع اليوم الى سيادة المطران Phillip Mounstephen  مطران ترورو في المملكة المتحدة والذي يعمل على مشكلة الحريات الدينية، لكي نقف على ما سوف يقوله لنا، نحن أبناء المجتمع-الرسالة.

فأهلا وسهلا به.

جامعة القديس يوسف

بيروت في 13.10.2022

*********************

Previous
Previous

المرأة والكرامة الإنسانيّة

Next
Next

لماذا تُعتبر حرّيتنا الدينيّة مهمّة؟