في التخوين والتكفير وتوسُّل الدين في السياسة

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط 

تَرِد في محطّات الإعلام كما في وسائل التواصل الإجتماعي، على لسان إعلاميّين أو عاملين في الحقل العام، أوصاف واتهامات تطال مجموعات إجتماعيّة - دينيّة معينة في منطقتنا، البعض منها مسيحيّة وهي كنائس عريقة في هوّيتها وتراثها وأعضاء في مجلس كنائس الشرق الأوسط.

أمّا الإتّهامات والأوصاف فهي تتمحوّر حول تخوين هذه الجماعات واتّهامها بأنّها أصوليّة وتشبيهها بالجماعات التكفيريّة التي دمّرت الشام والعراق وكادت أن تطيح بلبنان.

الجدير ذكره في هذا السياق أنّ الإتهامات والصفات المُهينة تُساق بخفّة خطيرة نظرًا لدقّة الموضوع وحساسية الأمور التي طُرحت.

أن تتهّم جماعات دينية ذات عراقة ثقافيّة ودينيّة مفعمة بالإنجازات وتحوي ثراء فكريًّا وثقافيًّا نادرًا في حجمه ومكنوناته، فهذا أمر خطير لا بدّ من التوقف عنده وتحليله واقتراح ما يمكن لتفاديه ومنع تكراره.

حريّة إبداء الرأي والقول والتعبير – سمِّها ما شئت – لا يمكن أن تكون وسيلة لتناول الناس والجماعات بخفّة واستخفاف ونمطيّة وصولًا إلى تعريضهم للتهميش أو لهدر دمهم.

إن لم تكن الحريّة مسؤولة فإنّها تستحيل فوضى. الحريّة بدون مسؤوليّة وضوابط ذهنيّة، قبل ضوابط اللسان، هي باب للتفسّخ الإجتماعي الذي يقود إلى الدمار.

لا يحقُّ لأيٍّ كان أن يرمي الكلام على عواهله ويرشق الآخرين، أفرادًا وجماعات، بأقذع الصفات معرّضًا إيّاهُم للمَهانة أو للإبادة.

إنّ الكلمة إن لم تكن مسؤولة فإنّها تستحيل سلاحًا فتّاكًا ليس له ضوابط. من هنا خطورة شبكات التواصل الإجتماعي والإعلام ذات الفضاء المتفلّت من كلّ ضوابط أو من كلّ حدود.

الحريّة مقدّسة بكلّ أبعادِها، من حريّة القول إلى كافّة الحريّات التي يحقّ للإنسان ممارستها، شرط أن تعرف حدودها التي هي حدود كرامات وسلامة ومصالح الغير، فرديًّا أو جماعيًّا.

الحريّة هي أغلى ما يملك الإنسان، لذلك يعاقب المرتكبون بحجز حريّاتهم في غياب العقوبة القصوى التي تتمثّل بنزع الحياة.

أمّا الحالات التي هي أمامنا فهي تتمثّل بأسوأ حالات إستعمال حريّة التعبير: توسُّل الدين في السياسة واتهام جماعات إجتماعيّة – دينيّة تحاول الحفاظ على هوّيتها ووجودها، بعد أن نزفت لقرون وخسرت الجزء الأكبر من وجودها وهي بصدد إعادة بناء نفسها وتكوين كيانها ورسم الإتجاهات الفضلى لمستقبلها.

كم هو سهل التفرّج على الحرب بالمنظار وكمّ هو سهل التنظير عندما تكون بعيدًا عن ساح الوغى حيث تفتك الجماعات المسلّحة بناس عزّل لا حول لهم ولا. كم هو تصرُّف خفيف رميُ الناس بالتّهم لأنّها تصرّفت بشكل مغاير لتوقعات المُنَظِّر أو المحلِّل. كم هو عمل قاتل أن تدين أناسًا كانت رقابهم تحت المقصلة وأن ترجمهم بصفات تهين عذابهم وشهدائهم وتضحياتهم.

هذا إجرام الكلمة الذي يجب أن يعاقب عليه من اقترفه.

"وقاتل الجسم مقتول بفعلته     وقاتل الروح لا تدري به البشر"

يقول جبران خليل جبران في المواكب.

في هذه الحالة نحن أمام قاتل للروح والجسم معًا، يختبئ وراء الرأي السياسي. ولكن الأمر السيّء الذي يقوم به هذا المحلّل هو توسُّل الدين في السياسة وهذه من أمراض منطقتنا التي أدّت إلى تدميرها، من حرب فلسطين إلى حرب الشام، مرورًا بحرب لبنان والعراق، بالتدرّج الزمني.

إن أسهل وأسوأ ما يمكن أن يقوم به عامل في الشأن العام أو إعلامي هو استعمال الدين لمآرب سياسيّة معتمدًا تقنيّات النمطيّة، راميًّا الأحكام يُمنَة ويُسرة بتهوّر نستطيع وصفه بالقاتل.

في استخدام الدين في السياسة يعتمد المرتكبون أيضًا تقنيّات التكفير والتخوين والأبلسة، وكلّها تؤدّي إلى وضع الفئات الإجتماعيّة المستهدفة بهذه الأفعال في موقع خطر قد يؤدّي إلى ما لا تحمد عقباه.

إذا لم يعتمد المشتغل بالحقل العام أو بالإعلام سياسة ضبط مخيّلته وتحريك رشده، فلا بدّ من قوانين وتدخّل لهيئات المجتمع المدني لكي ترُّدَه عن طيّشه.

Previous
Previous

معًا نتكاتف ونصلّي

Next
Next

سنة التحوّلات الكبيرة