أثرياء الحروب وملكوت اللّه

هذه الكلمة متوفّرة أيضًا باللّغتين الإنكليزيّة والإسبانيّة.

Dr. Michel Abs, MECC Secretary General .jpg

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

أُطلِقت تسمية اثرياء الحروب على كلّ من جنى ثروة بطريقة غير مشروعة، خلال الحروب عامة، على حساب حاجات الناس ومعيشتها وكراماتها.

هُمْ عادة إمّا الذين استفادوا، خلال الحروب، من تخزين المواد الحيويّة مثل الغذاء والدواء وغيرها من السلع الضرورية للحياة، ومن ثم باعوها عند نفاذ الكميّات المتوفرة في السوق، أو الذين استفادوا من الحروب الأهليّة متكّلين على قدرتهم على تجميع شذاذ آفاق حولهم، فزرعوا في البلاد رعبًا ووضعوا يدهم على موارد أساسيّة باعوها من الناس المحتاجة إليها، أو فرضوا إتاوات على الناس متذّرعين بحمايتهم أو بأيّ سبب آخر.

طبيعة منهج أثرياء الحروب هي اذاً إحتكارية، تقوم على وضع اليد على المواد والأماكن بشكل حصريّ، أو بالتنسيق بين مجموعة من رجال العصابات يسيطرون على سلعة أو على منطقة. من نافلة القول أنّ الإرهاب وتوسّل العنف هي الأدوات التي تساند العمل الإحتكاري القاتل.

لقد تنبّهت الأنظمة ذات الإتجاه الإقتصادي الحرّ إلى مشكلة الإحتكار عمومًا، خصوصًا خلال الحروب، فسنّت قوانين تمنع ممارسته تحت طائلة معاقبة قانونيّة قاسية.

إنّ المحتكر وثري الحرب هو موضوع رفض من قبل محيطه، ولا يحظى باحترام مجتمعه، ما خلا الناس الذين يعتاشون من تملّقه والإستزلام له. كذلك ينظر الناس إلى ثريّ الحرب كمجرم يستحق العقاب الشديد إذ أنّه بنى ثروته ومجده الباطلين على آلام الناس ومآسيها.

ولكن يبدو أنّ تعبير أثرياء الحروب يمكن إطلاقه على من لم يثروا حصرًا بالحروب إنما خلال السِلم ولكن بوسائل تشبه الثراء خلال الحروب. وإذا أردنا إدخال متغيّرة "الحرب" على هذا النوع من الثراء، قلنا أنّها حرب بعض الدولة وبعض المجتمع على المجتمع برّمته.

أن يتوقّع بعض رجال الأعمال تغيّرًا في الوضع القانوني لسِلع ما، مثل رفع الدعم أو تحديد الكميّات أو غيرها، فيعمدوا إلى احتكار هذه السلع ووضعها في مخابئ توحي بتصرف العصابات، فهذا التصرّف يعتبر حربًا على المجتمع، ويُصنِّف هؤلاء بـ " مجرمين بحقّ الأمّة والمجتمع" وهذا ذروة الإجرام.

لقد بلغ الطمع عند الناس مبلغًا عاليًا جدًا لدرجة أنّهم لا يتوانون عن ترك مريض دون دواء ورضيع دون غذاء من أجل تعظيم استفادتهم من السوق، خصوصًا عند ضعف الدولة أو غيابها التام أو خضوعها لإرادتهم أحيانًا.

هؤلاء الناس قد ضلّوا الطريق واختاروا أن يعبدوا المال بدل عبادة القدير، خالق الكون، الذي وضع بين أيّدينا كل مقدّرات الثراء والرفاهية.

لقد فاتهم قول السيد " فَقَالَ لَهُ اللّهُ: يَا غَبِيُّ! هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟ (لو 20:12) وأنّ الربّ "أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِين"( لو 1: 53).

وقد تنبّه الرسل إلى الميل الفطريّ عند البشر نحو الجشع وتكديس الثروات والفساد على حساب العامّة والمجتمع، فكتب بولس الرسول إلى تيموثاوس يقول له في رسالته الثانيّة:

"وَلكِنِ اعْلَمْ هذَا أَنَّهُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ سَتَأْتِي أَزْمِنَةٌ صَعْبَةٌ، لأَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ مُحِبِّينَ لأَنْفُسِهِمْ، مُحِبِّينَ لِلْمَالِ، مُتَعَظِّمِينَ، مُسْتَكْبِرِينَ، مُجَدِّفِينَ، غَيْرَ طَائِعِينَ لِوَالِدِيهِمْ، غَيْرَ شَاكِرِينَ، دَنِسِينَ، بِلاَ حُنُوٍّ، بِلاَ رِضًى، ثَالِبِينَ، عَدِيمِي النَّزَاهَةِ، شَرِسِينَ، غَيْرَ مُحِبِّينَ لِلصَّلاَحِ، خَائِنِينَ، مُقْتَحِمِينَ، مُتَصَلِّفِينَ، مُحِبِّينَ لِلَّذَّاتِ دُونَ مَحَبَّةٍ ِللهِ، لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى، وَلكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا. فَأَعْرِضْ عَنْ هؤُلاَءِ." (تيموثاوس الثانية ٣: ١- ٥). ويضيف أيضًا في نفس الرسالة: "مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ."               ( تيموثاوس  الثانية ٦: ١٠)

وكان قد زوّده بمجموعة من الوصايا في رسالته الأولى حيث قال له:

"أَوْصِ الأَغْنِيَاءَ فِي الدَّهْرِ الْحَاضِرِ أَنْ لاَ يَسْتَكْبِرُوا، وَلاَ يُلْقُوا رَجَاءَهُمْ عَلَى غَيْرِ يَقِينِيَّةِ الْغِنَى، بَلْ عَلَى اللّهِ الْحَيِّ الَّذِي يَمْنَحُنَا كُلَّ شَيْءٍ بِغِنًى لِلتَّمَتُّعِ. وَأَنْ يَصْنَعُوا صَلاَحًا، وَأَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ فِي أَعْمَال صَالِحَةٍ، وَأَنْ يَكُونُوا أَسْخِيَاءَ فِي الْعَطَاءِ، كُرَمَاءَ فِي التَّوْزِيعِ، مُدَّخِرِينَ لأَنْفُسِهِمْ أَسَاسًا حَسَنًا لِلْمُسْتَقْبَلِ، لِكَيْ يُمْسِكُوا بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ". (تيموثاوس الأولى ٦: ١٧- ١٩)

إزاء الوضع الحالي للبشرية، ولبلداننا خصوصًا، ماذا يمكننا أن نقول؟

يمكننا أن ننادي السيّد، علّ البشرية تسمعّ!

أنظر من علياء ملكوتك أيّها السيّد وتأمّل كيف يأكل الإنسان أخيه الإنسان وكيف يضع يده على مقتناه وموارده وحياته بالكامل!

أنظر من علياء ملكوتك أيّها القدّوس وتأمّل كيف استشرى الجشع وتغلّب على الإنسانيّة!

أنظر من علياء ملكوتك أيّها المتجسِّد وتأمّل كيف عاث الإنسان فسادًا في الأرض والبيئة وكيف أفسد بيت أبيك الذي صنعه يوم أخرجنا من العدم!

أنظر من علياء ملكوتك أيّها الرحوم وتأمّل كيف يحوِّل الإنسان الآخر إلى سلعة يحلِّلها للبيع والشراء.

أنظر من علياء ملكوتك أيّها المنتصِر على الفناء كيف تفني الإنسانيّة بعضها تحت ذرائع شتى.

لقد آن الأوان أن تحمل السياط من جديد في وجه تجّار الإنسان والقيَم والعقيدة. لقد آن الأوان أن يأتي ملكوتك على الأرض، فينشر العدل والسلام.

لقد تمادت البشرية في غيّها!

Previous
Previous

معًا نتكاتف ونصلّي

Next
Next

مستجدّات فيروس كورونا كوفيد-19 في الشرق الأوسط