سقوط القسطنطينيّة: دروسٌ وعِبَر

Dr. Michel Abs, MECC Secretary General .jpg

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

في التاسع والعشرين من أيَّار، يكون قد إنقضى 568 عامًا على سقوط القسطنطينيّة، روما الجديدة (نوفا روما) التي هوَت عام 1453 على أثر حروب سابقة إستهلكتها، وحصار شديد قضى على قدرتها على الصمود والإستمرار، وقد وُصف على أنّه أقسى حصارٌ في التاريخ.

المدينة الشهيدة، القسطنطينيّة، قادَت العالمَ المسيحيّ لمدةٍ فاقَت الألفَ عام، وشكّلت موئل المجامع المسكونيّة ووُصِفت على أنّها منارة العالم وعاصمة الإيمان ومركزَ الحضارة والثقافة، ودُعيَ مواطنو دولتِها الرومانيّة المسيحيّة " الروم" نسبة إليها لأنها روما الجديدة عاصمة المسيحيّة.

إستبيحت القسطنطينيّة بشكل يفوق الوصف والخيال. إستشهد الآلافُ من الأهالي كما نُقل منهم ثلاثون الفًا عبيدًا وأخِذَت البناتُ والراهباتُ والأولادُ إلى الأسْرِ كجوارٍ، وكان الدّمُ يسيلُ في الشوارع كالأنهار، والأجساد تطفو على ماءِ البحر. ومن نافلة القول أنّ النهب رافق السبي، فإستبيحت ثرواتها ومقتنيات أهلِها ومؤسّساتِها.

هذا هو، في المُختَصَر، اليوم الجلَل الذي شكّلَه التاسع والعشرون من شهر أيار من السنة الخمسمائة وثمانية وستون من زمن السيِّد.

منذ ذلك الوقت، سال الكثير من الحِبْر في وصف سقوط وذبح هذه المدينة العظيمة وغيرها من مجازر التاريخ التي، في أكثرها تحمل الطابع الدينيّ. ولكنّ الدمّ الذي سال بسبب الحروب الدينيّة هو، طبعًا، أكثر بكثير من الحِبْر، خصوصًا بين أبناء الدين الواحد والمذهب الواحد في كثير من الحالات.

ما يهمّنا نحن، في مجلس كنائس الشرق الأوسط، مؤسّسة الإنفتاح والحوار والفكر الحرّ، هو أن نستطيع إستخلاص الدروس والعِبَر من أحداث التاريخ ما إستطعنا إلى ذلك سبيلًا.

ماذا نستطيع أن نستخرج من هذه الحادثة الموجِعَة التي ألمَّت بنا منذ ستّة عقود بالنسبة إلى مستقبلنا كمشرقييّن مسيحييّن في توجهّاتنا كما في علاقاتنا مع بعضنا البعض ومع أبناء أمّتنا من المنتمين إلى مذاهب وأديان أخرى؟

العِبرَة الأولى هي أن كلّ بيت ينقسم على ذاته يخرَب. لقد أفادَنا بها السيِّد منذ البداية ونحن، بدلًا من أن نتخّذ هذه العِبرة ونسير على هديها، أمعنّا تقسيمًا في وجودنا المسيحي حتى كدنا أنّ نبدِّد البيعة برُمَّتها.

العِبرَة الثانيّة هي أنّ ظلم ذوي القربى أكثر أذيّة وإيلامًا من ظلم الآخرين، لأن ذويّ القربى يعرفون أين تكمن نقاط الضعف وكيف السبيل إلى الإضرار بالشكل المناسب.

العِبرَة الثالثة هي أنّ الأنانيّة وتقديم مصالح الذات أو بعض من المجموع على مصالح المجموع الأكبر هي داءٌ قاتل. مع الأنانيّة الطاغية أو التعصُّب الفئوي لا يمكن أن تتطور الجماعات البشريّة.

العِبرَة الرابعة هي أن لا شيء ليس له نهاية، بدءًا من الأفراد الذين وُصِفوا بالعظماء وصولًا إلى الأمبراطوريّات التي حكمت العالم لقرون أو لألوف. ليس من شيء إلا وهو زائل.

العِبرَة الخامسة هي أنّ الدين شكَّلَ ويُشكِّلُ أفضل أداة تستعملها السياسة للوصول إلى مآربها، إذ هو الدين، كشكلٍ من أشكال العقيدة عند الإنسان، الذي يحفّز الملوك والجيوش والوصولييّن على التصرّف بشكل أو بآخر. سوء استعمال الدّين هو أسوأ ما يمكن أن يصيب البشريّة التي ما زالت تعاني من هذه المصيبة حتى يومنا هذا.

بعد ستة قرون من سقوط روما الجديدة، القسطنطينيّة، ما زالت البشريّة وكأنّها في قرون الحضارة الأولى وما زالت خطابات الكراهيّة والتحريض الديني والتميّيز بين الناس على أساس انتمائهم الديني هي الثقافة السائدة في العالم.

تحاول مؤسّسات الحوار ويحاول المثقّفون المعنيّون بالسلم الإجتماعي، ونحن منهم، التركيز على ضرورة الإنفتاح على الآخر وقبوله كما هو، واحترام حقّه بالإختلاف. ولكنّ التقدّم الواضح للمراقبين المعنييّن ليس إلّا قليلًا بالنسبة إلى ما هو مطلوب من أجل الوصول إلى مجتمع إنسانيّ متجانس.

إنّ وضع الإنسانيّة اليوم يمكن أن ينتج لنا في كل زاوية من زوايا العالم سقوطًا جديدًا لقسطنطينيّة ما، تهوي تحت أسنة الكراهية الدينيّة المتبادلة ومطامع الأفراد.

كم أتمنى أن يدحض رأيي هذا قادم الأزمنة.

Previous
Previous

معًا نتكاتف ونصلّي

Next
Next

في ذكرى تأسيسه الـ 47