ذكرى 24 نيسان
الجريمة والمساءلة!
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
لمدة مئة وستة أعوام ما زال الشعب الأرمني يستذكر محاولة الإبادة التي تعرّض لها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
شعب آمن مُسالم مُنتج مبدع وجد نفسه فجأة في حالة من الفتك والتشرّد.
إنقلاب الزمن عليه أتاه بصورة عسكر مدجّج بالسلاح يأتمر بدولة أضحت توصف بالرجل المريض الذي يبتغي ممارسة الأذيّة قدر المستطاع قبل حلول ساعته.
تطالعنا الصحافة العالميّة ومواقع الأبحاث، يوميًّا، باكتشافات جديدة من وثائق وصور ومرويات حول تلك الحقبة التي اعتبرت أوّل مراحل التطهير العرقي في التاريخ الحديث. مجازر الأرمن تزامنت مع مجازر السوريان والكلدان والأشوريين، إضافة الى الأناضوليين، المسيحيين أيضًا. حسب الإحصاءات الواردة في مختلف الأبحاث التاريخيّة، فقد فاقت حصيلة هذه الحملة الخمسة ملايين ضحيّة. لقد طالت الإعتداءات أيضًا جماعات مشرقيّة أخرى مثل الكورد والأيزيديّين والعلوييّن ولكن الأعداد كانت أقلّ وفترة الإعتداءات كانت أقصر.
خلال هذه الأحداث، قُتل مَن قُتل وأزيلت بلدات وقرى عن الخريطة، أمّا من نجوا فقد تشرّدوا في كل أصقاع المعمورة حيث جرى العمل على إغاثتهم ومن ثمّ دمجهم ضمن المجتمعات المضيفة.
منذ ذلك الزمان والناجون يلملمون جراح نفوسهم وذاكرتهم ويحاولون العثور على بعضهم البعض، إمّا فقط للّقاء، وإمّا لجمع شمل عائلاتهم. ولكن يبقى أنّ كميّة الناس المفقودة كبيرة جدًا وكلّما مرّ الزمن كلّما تضاءلت فرص العثور على قريب أو صديق يستذكره هؤلاء الناجون كلّ يوم.
هذا في الشقّ الإنساني الموجع جدًا والذي سيبقى محفورًا في الذاكرة الفرديّة والجماعيّة للبشريّة إلى أجيال وأجيال.
أمّا الشقّ الحقوقي - الإقتصادي فهو معلّق ولا نرى أيّ تقدم فيه أيضًا. الدعاوى القليلة التي رفعها أبناء وأحفاد الناجين أو مؤسّساتهم هي إمّا نامت في أدراج المحاكم أو خسرها هؤلاء لأسباب ليست خافية على أحد.
هناك كميّات هائلة من الممتلكات العقاريّة، منها أراضٍ زراعيّة شاسعة ومنها أبنية مدنيّة ودينيّة قد جرت مصادرتها ولا أحد يعلم مصيرها القانوني. هي، في بعض الظاهر، ملك للأفراد وللكنائس، ولكن يجري قضمها واحدة تلو الأخرى ولأسباب شتى وتحت مسمّى المصلحة العامة، منها الأمنيّة ومنها البلديّة.
إن التراث العمراني والممتلكات مهدّدة بشكل لا يقبل الجدل، ممّا يحتِّم على أولياء الأمر التحرّك من أجل تأمين الحماية الدوليّة لها.
أمّا عدم الإعتراف بالمجازر والشروع بالإبادة ومصادرة الممتلكات، المنقولة منها وغير المنقولة، فنضعه في خانة تفادي المساءلة الدوليّة التي تحتِّم إعادة الجنسيّة إلى المتحدّرين في حال أرادوا ذلك، إضافة إلى التعويض على الضحايا وإعادة الممتلكات إلى أصحابها الأصليّين وهذا ما سيرتّب أعباء هائلة على خزينة دولة أحفاد مرتكبي المجازر.
لا ينتظر العالم ان يعترف المرتكب بعملته، لذلك نرى أنّ الإعتراف يأتي من دولة تلو الأخرى، كما من مؤسّسة تلو الأخرى، وقد توسّع إلى مدى كبير حتى يوشك أن يشمل البشريّة جمعاء.
عسى أن تقتدي دولة أحفاد مرتكبي المجازر بالكثير من شرفائها الذين إعترفوا بما ارتكب الأجداد وعبّروا عن شجبهم لذلك وقاموا، بفضل هذه المواقف، بخطوة جبّارة نحو المصالحة بين الشعوب والثقافات.
بفضل النقد الذاتي والإعتراف بالخطأ والرجوع عنه والإعتراف بحقوق من ظلموا وإعادة هذه الحقوق لهم، نبني مستقبلاً أفضل للإنسانيّة. ما عدا ذلك، فإن مستقبل البشرية سيكون قاتمًا، مشحونًا بالصراعات والحروب التي قد تفضي إلى الفناء.
يحتاج هذا الامر الى تعميم المحبة التي جسّدها السيّد حيث قال "أَتَـيْتُ لِتَكونَ لَهُم حياةُ، ولِيَكُونَ لَهُمْ أَفضَل".