التكامل المجتمعيّ والحوار والتقدّم – نحو رؤية مشتركة للعراق
هذه المحاضرة متوفّرة أيضًا باللّغتين الإنكليزيّة والإسبانيّة.
ألقيت هذه المحاضرة على جزئين خلال ندوة مشتركة بين مجلس الكنائس العالميّ ومجلس كنائس الشرق الأوسط.
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
تمرّ المجتمعات المتعدّدة الأعراق والإثنيّات والطوائف بأزمات تكامل قد تكون قاتلة أحيانًا.
جميعنا يعرف كمّ أنّ الهويّة القاعديّة أساسيّة في تعريف الإنسان- الفرد أو الإنسان-الجماعة وكمّ لها من التأثير على مصير الفرد والجماعة. في كثير من الأحيان نجد أنّ الإنسان مستعّد للتضحية بحياته ومقتنياته من أجل حماية هذه الهويّة والحفاظ عليها. إنّها تُعادِلُ وجوده.
بناء على ذلك، تطرح المجتمعات الحديثة الشديدة التنوّع على الصعُد كافة، الإثني منها كما الديني كما الطائفي، تحديّات جمّة على المشتغلين بعلوم الإنسان وراسمي السياسات الوطنيّة التي من شأنها الحفاظ على السلم الأهلي والتآلف الإجتماعي.
لقد شهدت الإنسانيّة منذ عقود صراعات عرقيّة وإثنية ودينيّة أدّت إلى دمار مجتمعات كانت لسنوات خلت مزدهرة قبل أن تنخرها سوسة التفسّخ الإجتماعي. إنّ الإحتكاك بين مكوّنات الهويّة غير المنسجمة في تركيبتها أمر خطير في غياب دولة عادلة وقادرة وواعية. إحتكاك الهويّات وصراعاتها أثبت أنّه أنجع الوسائل لتدمير المجتمعات ورميها في الفقر والتبعيّة.
نظريّة المؤامرة تقول أن هناك من يستغّل التنوّع الذي تتمتّع به المجتمعات ذات السلطة الضعيفة والموارد الوافرة من أجل إزكاء الخلافات بين مكوّناتها والسيطرة على مواردها.
إذا صحّت نظريّة المؤامرة هذه، فإن جزء منها هو من اجتراح المجتمع الذي لم يعرف كيف يصون وحدته ويدير تنوّعه ويستبق الأمور منعًا لتحوّل هذا التنوع إلى محرقة للمجتمع في حاضره كما في مستقبله.
من جهة أخرى، إذا أمعنا النظر وجدنا أنّ المجتمعات الصناعيّة المتقدّمة، التي تنتج السلع التي نحن مستهلكوها، ليست أقلّ تنوعًا من المجتمعات الغارقة في آتون النزاعات من كلّ نوع. لقد حوّلت الهجرات الدوليّة وسياسات إستجلاب العمالة لدى الدول الصناعيّة هذه المجتمعات إلى فسيفساء إثنيّة ودينيّة وثقافيّة أشدّ تنوّعًا من المجتمعات التي لم تلتحق بركب التقدّم الصناعي وحيازة القدرة التكنولوجيّة.
لا بل نستطيع أن نذهب أبعد من ذلك وأن نؤكد أن الكثير من هذه المجتمعات التي تعيش النزاعات هي قليلة التنوّع وقد تكتفي بمجموعتين أو ثلاثة من أجل ولوج جهنم النزاعات الأهليّة.
لقد زوّدنا التاريخ بشواهد مذهلة حول قدرة بعض المجتمعات على التفتّت وقتل الذات. التجربة اللبنانيّة تفيدنا أنّه عندما تتحلّل ثقافة قبول التنوّع فإن كلّ جماعة إثنيّة - دينيّة سوف تصبح كالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله. إن الفتك الذي حصل في لبنان بين فروع من نفس الجماعة الإثنيّة - الدينيّة كان أشدّ بكثير من الفتك الذي حصل بين جماعتين دينيّتين أو إثنيّتين.
لذلك فإنّ انهيار ثقافة قبول التنوّع وقبول الآخر ابن مجتمعي – وهو ليس إلّا الأنا الآخر- هو مؤشّر على انفراط العقد الإجتماعي وتاليًا تحوّل المجتمع إلى غابة يفتك فيها القويّ بالضعيف. هي مجتمعات تسير القهقرى من الحالة الثقافيّة إلى الحالة الغرائزيّة.
في حالة مثل تلك، ينتفي الرشد ويضمر المنطق ويختنق التسامح ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة وتصبح الأولويّة القضاء على الآخر المختلف على حساب المجتمع وأمنه واستقراره.
إنّها حمّى النزعة الإلغائيّة التي تصيب المجتمعات في فترات من تاريخها وقد تصيب مجموعة واحدة فتنقسم على ذاتها وتُضحي برسم الإضمحلال.
هنا يطرح السؤال المصيري نفسه: ما السبيل إلى الوقاية من هكذا أوبئة وصيانة وحدة المجتمع وتأمين ازدهاره ورفاه بنيه؟
إنّه الكلمة أيّها الناس! الكلمة التي ميّزت الإنسان عن باقي المخلوقات!
الكلمة تعني المنطق، تعني الحوار، تعني التفهّم، تعني التفاهم، تعني القدوم نحو الآخر.
هل هي صدفة أن تكون في البدء الكلمة؟
الكلمة تعني أن تكون قادرًا أن توصل رسائلك إلى الآخر وأن تتسلّم رسائله. الكلمة تعني انتفاء وسائل التعامل الفتّاكة وإحلال العقل مكان الإنفعال وإرساء ثقافة إحترام كلمة الآخر، وتاليًا معتقده، بغضّ النظر عن رأيك بهذا المعتقد أو موقفك منه.
الكلمة هي أن تكون الكلمة الطيّبة التي يخجل منها خطاب الكراهيّة ويرعوى أمامها كلام التميّيز بين أبناء المجتمع الواحد.
في الحوار ليس المطلوب من أيّ من المتحاورين إعتناق ما يعتقد المتحاور الآخر. المطلوب منه تقبّل أن هناك من لا يفكر مثله ولا يذهب مذهبه وأن يحترم هذه الفوارق.
إنّ بناء المجتمع السويّ، القائم على المواطنة الحاضنة للتنوّع يكون عبر التغيّير الثقافي وهذا لا يتمّ إلّا عبر التربية والإعلام. أمّا الضامن لكلّ هذا المسار فهو القانون.
من هنا محاور هذا المؤتمر الذي يضع معًا ممثلين عن مكوّنات المجتمع العراقي، العريق في تركيبته الثقافيّة والدينيّة والإثنيّة. والعريق في علمه وإبداعه وإنتاجه.
للأسف، إنّ ما جرى في العراق يثبت بما لا يقبل الجدل أنّ التقدّم التكنولوجي والعلمي، إن لم يواكبه تقدّم على مستوى التكامل الإجتماعي فانّه يبقى عرضة للإنهيار في أيّة لحظة. إنّ المجتمع هو كلّ متكامل يتقدّم بكليّته، ويتراجع إذا بقيت إحدى أبعاده دون التقدّم الذي وصلت إليه الأبعاد الأخرى. في هذا السياق يشكّل لبنان نموذجًا لا يختلف كثيرًا عن العراق حيث قضت الأبعاد غير المتقدّمة فيه – السياسيّة والثقافيّة، وأعني بالثقافة منظومة القيم، العقليّة، الذهنيّة، وأنماط السلوك الإجتماعي - على الأبعاد المتقدمّة – الصناعة والإقتصاد والطبّ والتربية والمصارف. لا بدّ لنا أن نشير هنا أنّ الأبعاد الثقافيّة الإجتماعيّة – القيم والعقليّات وأنماط التفكير والسلوك - هي الأكثر صعوبة في الإدارة والتغيّير بينما الأبعاد التكنولوجيّة تبقى سريعة النتائج.
إنّ التدمير الذي يأتي بشكل تفسّخ إجتماعي لهو أسهل بكثير من البناء الإجتماعي المتمثِّل بالوفاق بين الجماعات الذي يقود إلى السلم الأهلي والإزدهار فالرفاه.
تشكّل التربية العمود الفقري لهذا المسار إذ هي الإطار الأساسي لبناء العقول وصقلها وإرشادها إلى سبل تفكير جديدة وصولا إلى بناء الإنسان الجديد. العلم في الصغر كالنقش في الحجر تذهب الحكمة الشعبيّة. إبنوا برامج مدرسيّة ولاصفيّة وجامعيّة هادفة، تحصدون نتائجها وحدة مجتمعيّة وإنسان سويّ. إذا أردت تدمير مجتمع فما عليك إلّا تدمير قطاعه التربوي. والعكس صحيح وتجربة المجتمعات التي استطاعت أن تخرج خلال ثلاثة عقود من أوضاع مأساوية إلى نهضة إجتماعيّة إقتصاديّة ما زالت أمامنا.
أمّا الإعلام وهو ما يسمّى بالإنكليزيّة the new value shaping force أي القوّة الجديدة لتشكيل منظومة القيم، فهو الأداة الأكثر تأثيرًا في تكوين العقل الجماعي والمجتمعي سلبًا أم إيجابًا. لقد ذهب أحد القادة السياسيّين إلى القول: أعطني إعلامًا بدون أخلاق وأنا أعطيك شعبًا غبيًّا منقادًا. إذا كنّا نعتبر أنفسنا اليوم في عصر المعرفة، فإنّ الإعلام هو الأداة الأساسيّة للمعرفة الفرديّة والجماعيّة، لذلك يشكّل إستعماله أداة فعّالة في بناء المجتمع السويّ وفتاكة في تدمير المجتمع. لقد صنّف الإعلام أنّه أهمّ وسيلة للتنشئة الإجتماعيّة وهو أشّد فعالية في ذلك من العائلة والأتراب والمدرسة والجامعة. إذا لم يعي الإعلام خطورة كل كلمة وهمسة ورفّة عين يعمّمها عبر أدواته فإنّ المجتمع يكون في خطر، علمًا أنّه من المستحيل اليوم ضبط ومراقبة وسائل الإعلام والتواصل في هذه الشبكات المترامية الأطراف. جميعنا يعلم كمّ أنّ التلاعب بالعقول والمشاعر والرأي العام سهل عبر وسائل الإعلام والتواصل على تنوّعها.
أمّا الدولة، المتمثلة بالدستور فهي الضامن الأكبر للسلم الأهلي والتكامل الإجتماعي وتاليًا، تكوين الرأسمال الإجتماعي.
تشكّل العدالة أساس السلم الإجتماعي، لذلك يضعون في قاعات المحاكم عبارة "العدل أساس الملك" إذ أنّ الظلم والحرمان من الحقوق يشكّلان السبب الأساس للنزاعات الإجتماعيّة والإنتفاضات الشعبيّة. في الدولة العادلة تنتفي الأبعاد القاتلة للهوّيات إذ أنّ تطبيق القانون هو الوسيلة الوحيدة المتوفرة لتحصيل الحقوق. في الدولة العادلة التي يحصل فيها كل مواطن على حقوقه تتحوّل الهوّيات المتنوّعة ضمن المجتمع الواحد وسيلة غنى ثقافيّ لا وسيلة تفكّك وخراب.
من هنا اعتبرنا أنّ التعامُل مع البُعد الدستوري في سياق اهتمامنا بالتماسك الإجتماعي في العراق أمر ضروري. الدولة هي الضامن لمصالح الأفراد والجماعات وهي المؤطّرة لحركة المجتمع ودينامياته وغيابها يعني الخراب وضياع المجتمع. عندما نقول الدولة، نعني الدولة العادلة التي يتمثّل فيها جميع مواطنيها قدر المستطاع.
في ختام كلمتي أتمنّى لهذا اللقاء أن يكون لُبنَة تضاف إلى بناء العراق الجديد، هذا العراق الذي لم نتصوّر يومًا أنّه قد يصل إلى ما وصل اليه. نتمنّى على جميع المتحاورين، وهم من نخب المجتمع العراقي صياغة غد أفضل لمجتمع عانى من الظلم ما يكفيه. مجتمع يستحّق الحياة لأنّه يكتنز في تاريخه وثقافته وموارده الإنسانيّة والماديّة مقوّمات الحياة الكريمة. لقد كان مجتمعكم ضحيّة مؤامرة موصوفة وسافرة انتهت باعتذار لن أعطيه الوصف الذي يستحق ولكن يمكنني أن أقول عنه أنّه لا يُسمِن ولا يغني عن جوع. لقد رأى العالم برّمته كيف حوصر العراق وكيف دمّر وكيف تراجعت فيه كلّ الخدمات وكيف قُتل أطفاله وكيف أصبح فريسة الفقر والمرض وارتفاع أعداد المعاقين وكيف استشرت فيه النزاعات وكيف وصل إلى ما وصل إليه اليوم.
هنا أسمح لنفسي بطرح سؤال متفرّع عن إشكاليّتنا الأساسيّة: هل من مساءلة لمن يرتكب كلّ هذه الخطايا بحقّ الشعوب؟
على ضوء انتفاء الإجابة على هذا السؤال، كما عدم القدرة على مساءلة من ارتكب الأخطاء والخطايا الجواب الوحيد يكون بمداوات مفاعيل هذه الإرتكابات.
الردّ يكون بأن نعيد بناء ما تهدّم من بشر وحجر وأن ننكبّ على مداواة العلّة عبر التعامل مع جذورها والتعلّم من أخطائنا إذ أنّ المؤمن لا يُلدَغ من الجُحرِ مرتين.
الردّ يكون بإرساء أسس جديدة للتضامن الإجتماعي وصولًا إلى إعادة تأهيل الرأسمال الإجتماعي ومنظومة القيم. لقد شكّل هذا الهدف بعدًا استراتيجيًا أساسًا ضمن الإطار الإستراتيجي الذي رسمناه لعملنا للسنوات القادمة في مجلس كنائس الشرق الاوسط وباكورته مشروع الكرامة الإنسانيّة الذي انتهينا من بلورته أخيرًا ونتحضّر لتنفيذه.
أيّها الحضور الكريم،
لقد مرّت مجتمعات أخرى بما نمرُّ به نحن اليوم في المشرق الأنطاكي وقد استطاعت عبور أزمنتها الملبّدة بغيوم التفسّخ والكراهية وقد دامت ما يقارب القرن وهي اليوم أكثر الشعوب إستقرارًا وازدهارًا. إنّ التجارب هي مدارس الشعوب على أن تكون هذه الشعوب قادرة على أن تأخذ العِبَر.
لذلك أؤكّد لكم أنّ العبور إلى المجتمع السويّ المتماسك ليس بالأمر المستحيل.
إنّه يحتاج إلى الكلمة!
ما هي تبعات ما ورد على رؤية مشتركة للعراق يجترحها أبناؤه الذين يصرّون على أن يحيوا فيه ويجعلوا منه مكانًا أفضل للحياة؟
من البديهي أنّ جماعات من الناس تعيش على بقعة جغرافيّة واحدة وتتفاعل مع بعضها بعضًا على الرغم من وجود التمايز بينها، أن تنسج رؤية مشتركة لمستقبل هذا المكان الذي اسمه الوطن، حيث يرتاح الفؤاد وحيث نريد أن نرى أولادنا وأحفادنا يترعرعون في ظلّ مؤسسّات حافظة للناس حامية لمنجزاتهم وحاضنة لمستقبلهم.
في الوطن أنت تعمل لنفسك حكمًا كونك تريد أن تحيا حياة كريمة ولكنّك تعمل، شئت أم أبيت، لأجيال لم تولد بعد!
تمايزك عن الأنا الآخر لا يجعلك في غربة عنه... يجعلك تختلف معه ربما ولكنّك محكوم باجتراح حياة مشتركة كونك مواطن له، تحيا معه على نفس البيئة المكانيّة منذ آلاف السنين، أو أقلّه منذ المئات منها.
التاريخ بدأ في العراق، في بيث نهرين، فهل يعقل ألّا يكون هذا الشعب واحدًا موحدًا قد تمايزت فئاته عن بعضها البعض بحكم التحوّلات التاريخيّة والفتوحات والديناميّات الداخليّة الطبيعيّة في كلّ أمّة على وجه المعمورة؟
تمايزوا ما شئتم يا أبناء أمّتي العراقيين وتفرّدوا ما شئتم وتشعبّوا ما شئتم، ولكنّكم بالنسبة لي، أنا اللبناني الذي عرف الكثير من العراقييّن منذ نعومة أظفاره، أنتم شعب واحد وحضارة واحدة في عميق جذورها، تحوّلت بنيتها ودخلت عليها هجرات وأصبحت تكوّن الشعب العراقي الذي ذبح دون تميّيز والذي نهبت حضارته وآثاره دون تميّيز والذي قتل علماؤه وهجّروا إلى جميع أصقاع المعمورة دون تميّيز.
من البديهي بعد ما مرّرتم به من مآسٍ أن تجلسوا معًا تتحاوروا حول مستقبل ما جمعكم منذ ألفيات ستّ، وجعل منكم مهد الحضارة كمّا سمّاكم رئيس دولة عظمى وهو يهمّ بذبحكم.
لن أدخل في السياسة ولا في الماضي القريب فالماضي عبر ودروس والحفر فيه وفتح دفاتره مشروع فتنة ومسار لا طائل منه.
إنّ الوسيلة الوحيدة لبناء وحدة إجتماعيّة وبالتالي وحدة وطنيّة هي التوصُّل إلى رؤية مشتركة لما سيكونه وطن الغد، أيّ بوضع التصوّرات العائدة إلى مختلف مكوّنات المجتمع مع بعضها البعض ومقارنة توجّهاتها وبالعمل بانتقائيّة مع التطلّعات المختلفة الموضوعة على بساط البحث.
الرؤية أو التطلّعات تعني حكمًا نظرة استراتيجيّة إلى مستقبل الوطن. هي حلم حقّ الشعوب أن تحوّله حقيقة. لا تنسحبوا من الحلم ولا تتنازلوا عن حقكّم بمحاولة تحقيقه. الحقائق والإنجازات هي نتائج أحلام نجح أصحابها في نقلها إلى حيّز التنفيذ، بدرجات متفاوتة طبعًا.
حقّ العراقييّن أن يحلموا، مثل كلّ شعوب المشرق الأنطاكي الذي جرى تدميره بشكل منهجيّ، مجتمعًا بعد مجتمع، بدءًا بفلسطين وصولًا إلى الشام فالعراق مرورًا بلبنان. نفس منهجيّات الفتنة والفتك استعملت ونفس النتائج وصل إليها آكلو لحوم الشعوب وناهبوا ثرواتها. إلّا يضيركُم كما يضيرنا أن نرى إنتاج وإبداع الأجداد معروضًا في كلّ متاحف المعمورة وكأنّ حضارتنا سائبة وشعوبنا مسبية؟
إسمحوا لي أن أستعمل في هذه المقدمّة المقتضبة الصورة التشبيهيّة التي إعتمدتها في مخاطبتي للمسيحييّن يوم تسلمي خدمتي في مجلس كنائس الشرق الأوسط: إمّا أن تكونوا حزمة متراصّة عصيّة على الكسِر وإمّا أن تكسروا عودًا عودًا. وقد أضفت آنذاك أنّ ما أقوله للمسيحييّن ينطبق على سائر أهالي المنطقة المسمّاة المشرق.
إنّ المرونة في التعامل، والتخلّي عن الذاتيّة المفرطة والتعامل مع الشركاء في الوطن بمنطق أنّنا في نفس المركب ولن ينفع أحد أن يختبئ في مقصورته بينما المركب يغرق، هي المنهج الصحيح للوصول إلى رؤية مشتركة موحدّة لمستقبل الوطن.
يجب أن نبقي نصب أعيننا أنّ الإشتراك في الحياة وتحصين هذه الشراكة المجتمعيّة بعقد إجتماعي جديد هو السبيل الناجع للوصول بمجتمعاتنا إلى شاطئ الأمان.
أقول ما أقوله لبني أمّي العراقيّين وتجربة لبنان نصب عينيّ وقد درَج القول لفترة طويلة أنّه قد جرت لبننة العراق ومن ثم درجت مقولة عرقنة لبنان.
لنتعلّم من تجارب بعضنا لأن مآلنا واحد ومصيرنا واحد وثقافتنا واحدة مذ راح جلجامش ملك أوروك يبحث عن الخلود وحتى اليوم. إنّ بلاد الأرز ستبقى دومًا فاتحة يديّها مرحّبة بكل من يئمها في بحثه عن الخلود.
اذا كانت أساطيرنا مشتركة منذ ما قبل التاريخ الجليّ، فمن باب أولى أن يكون مصيرنا مشترك وأن يكون ما يحاك لنا مشترك أيضًا.
لا مفرّ لأيّ من مكوّنات مجتمعاتنا المشرقيّة من التماسك والتآزر وإلا فإن المصير قاتم ولكنّنا قوم نؤمن بالقيامة وبتجدّد الحياة، فلنجسّد هذا التجدّد في ما سننجزه خلال الأيّام القادمة والله وليّ التوفيق.