في العنف والإنسان والآخر
هذه الكلمة متوفّرة أيضًا باللّغتين الإنكليزيّة والإسبانيّة.
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
لقد عينّت منظّمة الأمم المتحدة يوم الخامس والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر اليوم الدولي للقضاء على العنف ضدّ المرأة كما "يدشّن اليوم الدولي للقضاء على العنف ضدّ المرأة لهذه السنة 16 يومًا من النشاط تحت مسمّى حملة "إتّحدوا لإنهاء العنف ضدّ المرأة" تُختتم في 10 كانون الأول/ ديسمبر، وهو اليوم الذي تُحيّي فيه ذكرى اليوم العالميّ لحقوق الإنسان".
https://www.un.org/ar/observances/ending-violence-against-women
بحسب الموقع ذاته المذكور أعلاه، لا بدّ لنا أن نذكر وجود إعلان للقضاء على العنف ضدّ المرأة، صادر عن الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة عام 1993.
يُعَرّف العنف ضدّ المرأة على أنّه "أيّ فعل عنيف تدفع إليه عصبيّة الجنس ويترتّب عنه أو يرجّح أن يترتّب عليه، أذى أو معاناة للمرأة سواء من الناحية الجسمانيّة أو الجنسيّة أو النفسيّة، بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو القسر أو الحرمان التعسّفي من الحريّة، سواء حدث ذلك في الحياة العامّة أو الخاصّة."
ويستند الموقع على إحصاءات مفادها أنّ " ثلث النساء والفتيات تتعرّضن ﻟﻠﻌﻨﻒ اﻟﺠﺴﺪّي أو اﻟﺠﻨﺴﻲّ خلال ﺣﻴﺎﺗﻬﻦ، ويكون ﻓﻲ ﻣﻌﻈﻢ اﻷﺣﻴﺎن من طرف عشير". كما تُظهر البيانات الإحصائيّة منذ بدء جائحة كوفيد - 19 زيادة في حالات العنف المنزلي في أماكن عدّة من العالم. إضافة إلى ذلك فإنّ نسبة 71% من جميع ضحايا الإتجار بالبشر في العالم هنّ من النساء والفتيات، وأنّ ثلاثة أرباع هؤلاء النساء والفتيات يتعرّضن للإستغلال الجنسيّ.
من المهّم جدًا أن تهتم الإنسانيّة، عبر منظّماتها الدوليّة ذات الفعاليّة، بالفئات المستضعفة والمهمّشة وأن تعمد إلى حمايتها عبر إيجاد السياسات والبرامج الناجعة من أجل تخفيف معاناة الإنسان والسير به نحو حياة أفضل.
ولكن السؤال الذي لا بدّ منه هو: هل يطال العنف فقط المرأة؟
من الجيّد العمل على حماية المرأة لأنّها شكّلت تاريخيًّا الحلقة الأضعف في المجتمع الذي يقوم على القوّة بدل القانون وعلى العنف بدل العدالة، ولكن أليس الحَريّ بالإنسانيّة أن تحارب العنف بالمطلق شاجبة إستعماله في أيّة حالة وتحت أيّ ظروف؟
العنف عنفٌ، إن جرت ممارسته ضدّ المرأة أو الطفل أو اللاجئين أو العمّال النازحين أو المعوّقين أو حتى زملاء العمل. العنف بحدّ ذاته، وبالمطلق هو تحويل الإنسان إلى شيء وتجريده من كرامته وإذلاله وصولا إلى إزالته من المجتمع وربما من الوجود.
من الجيّد أن نقيم أيّامًا محدّدة لحملات متخصّصة، مثل مكافحة العنف ضدّ المرأة وضدّ الأطفال وضدّ سائر المجموعات التي تشكِّل البشريّة والتي بحكم وضعها الإجتماعي ليس بمقدورها الدفاع عن نفسها وتثبيت حقوقها. ولكن الأهمّ يكمن في محاربة ثقافة العنف التي ما فتئت تعصف بالبشريّة منذ زمن التكوين.
هذا لا يعني أنّ السيّد لم يشكّل في سلوكه حماية للمرأة، ومَثَلُ الزانية والسامريّة وغيرها من الأمثال هي التعبير الأفضل عن ذلك المنحى المسيحيّ تجاه حماية المرأة من ضمن حماية الكرامة الإنسانيّة.
لقد توقّف السيّد مطوّلاً أمام العنف الإنسانيّ وكانت تعاليمه وأعماله مناهضة للعنف على الرغم من أنّه قد أكّد "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا" (متى 10: 34) والفارق واضح بين الثورة كونها رفضٌ لوضع مُعوَّج قائم لا بدّ من إزالته من أجل حياة أفضل والعنف الذي يفتك بالبشريّة فلا يبقِ ولا يذرِ.
ثوريّة السيّد المتجسّد لم تعنِ عنفًا ووداعته لم تعنِ خنوعًا. لقد كان في وداعته الكثير من الكرامة والعنفوان ولم يكن يحتاج إلى العنف ضدّ أيّ كان من أجل تثبيت ما يقول.
في الموعظة الدهريّة على الجبل أكّد السيّد أنّ "طوبى للودعاء فإنّهم يرثون الأرض" (متى 5: 4) و"طوبى لفاعلي السلام فإنّهم أبناء لله يدعون" (متى 5: 9)، كما يضيف في مكان آخر "إنّ كلّ من غضب على أخيه يستوجب المحاكمة" (متى 5: 21 و22).
ويذهب أبعد من ذلك ويقول "لا تقاوموا الشرّير. بلّ من لطمَك على خدِّك الأيمن، فقدم له الآخر أيضًا" (متى 5: 38) و"أحبّوا أعداءكم وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم" (متى 5: 43).
امّا عندما آن أوان التسليم وعندما استل واحد من الذين كانوا مع السيّد سيفه وضرب غلام رئيس الكهنة وقطع له أذنه، قال له يسوع: "ردّ سيفك إلى موضعه، لأنّ جميع الذين يأخذون بالسيف، بالسيف يهلكون"(متى 26: 51-53).
أمّا ذروة محاربة العنف فتماهت مع ذروة الوجع والمرارة، وجع السياط والمسامير والحربة، ومرارة الوداع، حيث غفر السيّد المتجسّد لجلّاديه مخاطبًا أباه السماويّ طالبًا " أغفر لهم يا أبت لأنّهم لا يدرون ماذا يعملون" (لوقا 23: 34) وكأنّي به يقول لهم أنا أحبّكم على الرغم من حقدكم وعنفكم.
لقد شكّلت المسيحيّة تاريخيًّا، من الناحية السوسيولوجيّة، خزّان قيم ودليل سلوك لجزء كبير من البشريّة، هذا الجزء الذي، انطلاقًا من هذه القيم التي شكّلت حافزًا له، اجترح الجزء المتقدّم من الحضارة الإنسانيّة.
إنّ المجتمع القائم على العنف أو الذي يسمح باستشرائه هو مجتمع مكتوب له الهلاك الذاتي، فكيف إذا كان العنف موجّهًا ضدّ الفئات الأكثر حاجة للحماية فيه؟
ولكن، من جهة أخرى، مكافحة العنف لا بدّ أن تستند على بعد إيمانيّ يتمثّل في تعاليم السيّد المتجسّد لأنّها هي النبع الذي نهلت منه كل الأفكار التي سميّت لاحقًا تنويريّة ودبّجت مبادئ ومُثُل عُليا، جديدة في ظاهرها، ولكنّها في جوهرها وعُمقها ليست إلّا تعاليم السيّد بعبارات جديدة.
منذ الفين قال السيّد المتجسّد المتمرّد ما قاله، راسمًا مسارًا لإنسانيّة جديدة متحرّرة من الكراهية التي تقود إلى العنف.