وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك: أبعد من التعبير عن النوايا الحسنة
القاضي عباس الحلبي
رئيس الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي
تتويجاً لزيارة البابا فرنسيس إلى دولة الإمارات العربية المتحدة وبمناسبة إعلانها هذه السنة سنة التسامح ونتيجة اللقاء الذي جَمَعَ البابا مع شيخ الأزهر الإمام الأكبر د. أحمد الطيب صدَرَت "وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك" ولها مقدمة وخاتمة.
تحدد المقدمة المنطلقات التي بُنِيَت الوثيقة على أساسِها وأبرزها وحدة الإيمان والرغبة في تقديم العَون لكل إنسان لا سيَّما الضعفاء والأشخاص الأكثر حاجة وعَوَزا". لقد أسفَرَت المحادثات الأخوية التي جمعَت قطبي المسيحية والإسلام عن الإعلان المشترك على قاعدة النوايا الصالحة والصادقة بحيث تصبح هذه الوثيقة دليلا" للأجيال القادمة لتكريس ثقافة الإحترام المتبادل بغية إدراك النعمة الإلهية الكبرى.
وبعد أن عددت الوثيقة بإسم من صدرت إبتداء" من الله خالق البشر جميعا" متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة وبإسم النفس البشرية التي حرَّمَ الله ازهاقها وبإسم الفقراء والبؤساء والمحرومين والمهمشين والأيتام والأرامل والشعوب والأخوة الإنسانية والحرية والعدل والرحمة والأشخاص ذوي الإرادة الصالحة فإنها حددت إلى من توجه هذه الوثيقة إليهم وهم المفكرون والفلاسفة ورجال الدين والفنانون والإعلاميون والمبدعون وسواهم.
لقد عرضت الوثيقة الجوانب الإيجابية التي حققتها الحضارة الحديثة ولكنها بالمقابل، رسمت مشهدا" قاتما" لتراجع القِيَم الروحية والشعور بالمسؤولية وكيفَ أنَّ التطرف الديني والقومي والتعصّب قد أثمروا في العالم سواء في الغرب أو في الشرق ظواهر بِحَيث سُمِّيَت هذه الظواهر بوادِر «حرب عالمية ثالثة على أجزاء» كما عرضت نتائج الأزمات السياسية التي أنتجت ظلما" بإفتقاد العدالة في توزيع الثروات والأزمات قاتلة بالرغم من الثروات فإنها أكدت على الأسرة كنواة لا غِنى عنها للمجتمع والبشرية وعلى أهمية إيقاظ الحس الديني والتأكيد أيضا" وخصوصا" على أنَّ هدف الأديان الأول والأهم هو الإيمان بالله وعبادته وأن الأديان لم تكن أبدا" بريدا" للحروب أو باعِثة لمشاعر الكراهية والعداء والتعصّب أو مثيرةً للعنف وإراقة الدماء.
وهنا أشارَت الوثيقة إلى ما سبقها من وثائق عالمية نبَّهَت إلى أهمية دور الأديان وأكَّدَت على جملة مفاهيم جديدة لبناء السلام العالمي فيها:
- ان التعاليم الصحيحة للأديان تدعو إلى التمسك بِقِيَمِ السلام وإعلاء قِيَم التعارف المتبادل والأخوة الإنسانية والعيش المشترك.
- ان الحرية حق لكل إنسان
- ان العدل قائم على الرحمة
- ان الحوار يقوم على التفاهم ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر
- ان الحوار بين المؤمنين يعني التلاقي في المسامحة الهائلة للقيم الروحية والإنسانية.
- وان حماية دور العِبادة واجب وأن استهدافها خروج عن تعاليم الأديان.
- ان الإرهاب يهدد أمن الناس شرقا" وغربا" شمالا" وجنوبا".
- ان المواطنة يجب أن تكون قائمة على المساواة في الواجبات والحقوق.
- انه يقتضي التخلي عن استخدام مصطلح الأقليات.
- ان لا مناص من قيام علاقة بين الشرق والغرب وإبراز حيوية ضرورتها وأهميتها.
- ان الإعتراف واجب بحق المرأة في التعليم والعمل وممارسة حقوقها السياسية.
- كما التأكيد على حقوق الأطفال
- وضرورة حماية المسنين والضعفاء وذوي الإحتياجات الخاصة
وبالخلاصة برزَ في هذه الوثيقة تعهّد من المرجعيتين بإيصالها إلى صنَّاع القرار العالمي والقيادات والمنظمات والمؤسسات الدينية وأن تصبح أيضا" موضع بحث في المدارس والجامعات والمعاهد لتختم ان هدف الوثيقة هو دعوة للمصالحة والتآخي ونداء ضمير حي لنبذ العنف وشهادة لِعظَمةِ الإيمان بالله ورمزا" للعناق بين الشرق والغرب والشمال والجنوب بغية الوصول إلى سلام عالمي ينعم الجميع به في هذه الحياة.
ولكن أبعد من صدور هذه الوثيقة يجب التوقف عند جملة قضايا وأمور تتصل برمزية المكان الذي صدرت منه ورمزية القطبين اللذين أعداها والتطور الذي تضمنته هذه الوثيقة بالنسبة إلى وثائق أخرى سابقة لها.
وبالفعل
إن إعلان دولة الإمارات العربية المتحدة سنة 2019 سنة التسامح أتاح لهذه الدولة جمع القطبين في رعايتها ذلك أن الإمارات تحتضن وافدين إليها من أكثر من مئتي جنسية من دول وأقطار مختلفة في العالم ومن إنتماءات دينية وعقائدية لا تقف فقط عند حد الأديان السماوية بل تتعداها خصوصا" إلى الديانات غير السماوية في جوٍ من حرية الإعتقاد وحرية ممارسة العبادات ضمن ما يزيد عن الـ 47 معبدا" وكنيسة لتمكين المؤمنين من ممارسة شعائرهم الدينية بحرية تامة ولكن تحت سقف القانون والنظام العام للدولة.
إن قيادة الدولة بِما لها من سعة أفق وإيمان عميق وإنفتاح فكري وديني وثقافي أتاحَت للوافدين جميعا" ليس فقط حرية الإرتزاق بل أيضا" ممارسة حياتهم الدينية بحرية تامة. كما أتاحَت الفرصة لبابا الفاتيكان ولأول مرة في التاريخ أن تَطَأ قدماه أرض الجزيرة العربية وهي مهد الإسلام والمسلمين بإنفتاحٍ كلِّي أثبَتَته هذه الزيارة بتنظيم قداس كبير في مجمَّع زايد الرياضي حضَرَه أكثر من مئة وثلاثين ألف شخص كان في عدادهم مسلمون من أقطارٍ عربية مختلفة.
من مظاهر نجاح الزيارة هو أن البابا فرنسيس بخلافِ أسلافه كان دوما"لديه منسوب أعلى لجهة التعاطف مع المظلومين والمقهورين ويقدِّم المهمشين والفقراء وأصحاب الحاجات في سلَّمِ أهمية حبريَّته كما رأينا في العديد من المواقف والمناسبات.
من هذا المنطلق فإنَّه متعاطف أيضا" بِما لحقَ بالإسلام من الظلم لجهة إلصاق تِهَم الإرهاب والعنف به وهو الدين الأكثر إعتناقا" وإنتشارا" في العالم. كما أن شيخ الأزهر الذي دأبَ منذ سنوات على رعايةِ المؤتمرات والإجتماعات والمباحثات التي أدَّت إلى صدور وثائق عديدة منها ما يتصل بمصر وخصوصيتها ومنها ما يتصل بمبادئ عامة تتعلق بالحرية الدينية والمواطنة وسواها بما مهَّدَ له من تعزيز العلاقة مع الأقباط في بلاده والمسيحيين على العموم في المشرق العربي والتأكيد على أنهم مواطنون أسوةً بإخوانهم المسلمين متساوون في الحقوق والواجبات وأنهم ليسوا أقلية تعيش ضمن أكثرية بل أنهم جميعا" مسلمين ومسيحيين مواطنون في دولة دستورية وطنية مدنية جامعة.
لقد تحسَّرنا نحن العاملون في الحوار الإسلامي المسيحي على ان خطوة من مثل إجتماع البابا بشيخ الأزهر أو صدور وثيقة الأخوة الإنسانية كان يجب أن تكون في لبنان وهو البلد المؤتمن على رسالة العيش المشترك في هذا الشرق وأن البابا كان يقتضي أن يعلن ذلك من بلدٍ يشكِّل المسيحيون فيه ركنا" من سكانه الأصليين وليس مثل الإمارات بلد الوافدين.
ولكن اللبنانيين لم يكونوا منذ فترة أمينين على رسالةِ لبنان بل تَلَهوا في تضييع ميزة هذا الوطن بما جرى بينهم من حروب ومنازعات لا تزال قائمة في وقتٍ يسعى الحكم في لبنان لإستضافةِ أكاديمية الحوار العالمي بين الثقافات والأديان ولكن ومن بابٍ أولي وقبل إستضافة هذا المركز ضرورة السعي لضمان السلم الأهلي بين المكوِّنات اللبنانية وخفض منسوب التوتر المذهبي القائم وتحصين لبنان من المداخلات الخارجية في شؤونه الداخلية ووقف إستعانة وإستقواء بعض الفئات اللبنانية بالخارج لتغليب وجهة نظرهم ضد شركائهم في الوطن.
لقد إحتلت الإمارات المركز الإقتصادي والمالي والمصرفي الذي كان لبنان فيه منذ سنوات طويلة ولكن لبنان بقي يمتاز بميزة العيش الواحد فجاءَت مبادرة الإمارات هذه لتأخذ حتى هذه الميزة من لبنان وتنقلها إلى الإمارات بحيث يكاد لبنان أن يصبح مجردا" من كل مزاياه ولكن المسؤولية لا تقع على الإمارات بل على اللبنانيين أنفسهم الذين لم يقصروا في توفير ظروف هذا التراجع.
إننا نتطلَّع ألاّ تكون هذه الوثيقة مثل سواها من الوثائق التي نحتفل بها برهةً لِننساها لاحقا" وبسرعة بل لتكون فعلا" برنامجا" وأن تتوفَّر لها الآلية المناسبة للإستفادة منها وقد أدرَجَت في محتواها بعضا" من هذه الآلية بضرورةِ تقديمها إلى صنَّاعِ القرارالعالمي والمعاهِد والمدارس والجامعات والمؤسسات الدينية والإجتماعية والمجتمع المدني بِغيَة الإستفادة منها وتحويلها من وثيقة جامدة إلى أخرى فاعلة يُستفاد منها فعلا" لا قولا" في تحقيق السلام العالمي وهو أكثر ما نحتاجه في عصرنا الحاضر.