لقاء السامرية مع يسوع فرصة لاستقبال نعم اللّه

فتصبح حياتنا نورًا وانتعاشًا وفرحًا!

بمناسبة صوم الباعوثا (30- 31 كانون الثاني/ يناير و1 شباط/ فبراير 2023)

غبطة البطريرك الكاردينال لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكلدان في العراق والعالم

ادعو القرّاء الكرام الى قراءة النص الإنجيلي المتعلق بلقاء يسوع الذي قلب حياة المرأة السامرية (يوحنا 4/ 1-30)، بانتباه وتعمق! يريد الإنجيلي يوحنا ان يُظهر للسامرية ولنا ان المسيح يجب أن يكون محور حياتنا،  وان نسعى لنعرفه ونحبّه ونقتدي به. هذا الإتباع إهتداء يومي شخصيّ، وسير في طريقه "لننال من ملئه نعمة فوق نعمة" (يوحنا 1/ 14، 16). انه طريق الخلاص.

لقاء يسوع يتطلب الإنصات بتواضع، وتركيز، فضلًا عن الانفتاحَ والاستقبال والصلاة، والحرية الداخلية وسلام القلب حتى ينزل ما نسمعه الى أعماق قلبنا، على مثال اُمنا مريم: "وكانت مريم تحفظ جميع هذه الأمور وتتأملها في قلبها" (لوقا 2/20).

في لقاء المرأة السامرية بيسوع، أشرق نور النعمة في قلبها فشعرت بارتياح كبير. هذا اللقاء غيَّر حياتها بأكملها وعاشت في حضرة يسوع. هذا هو الإيمان الشخصي، وليس الإيمان الوراثي السطحي! الايمان أمر في منتهي الجدية، يقتضي قبول الله بثقة، وتسليم الذات له. وتتخذ العلاقة بين الله والمؤمن طابع الولاء والالتزام مهما كان الثمن، يُلخِّصُه الكتاب المقدس "بكلمة العهد". يعيشه المسيحي بثبات وعمق.

في البداية لم تكن المرأة السامرية تعرف شيئًا عن سرِّ يسوع، لكن ما أن عرَّفَها بنفسه حتى تقدمت إليه مصدومة، ومشدوهة، ترجوه ان تحصل على الماء الحيّ: "أعطني من هذا الماء لاشرب". والمقصود بالماء هو نعمة الروح القدس. 

نظرة يسوع الرقيقة اخترقت قلبها، وكلماته الطيبة أدهشتها ووهبتها فهمًا وإدراكًا وفرحًا كبيرًا. كلُّ عطية تأتي بواسطة اللقاء الصادق والصلاة الحارة كاللقاء مع السامرية ولقاء مريم ومرتا والزانية.. هذه العلاقة الوجودية تتدفق نحو الحياة الأبدية.

ثم قال لها يسوع: “اذهبي وادعي زوجك”، أي أراد ان يجعلها شاهدة له وتدعو زوجها ليتعلم مثلها. قالت ليس لي زوج؟ قال لها كان لك خمسة أزواج. لربما يشير يسوع الى السامريين الذين يكتفون بخمسة أسفار التوراة ويرفضون الأسفار الاخرى للكتاب المقدس، لذا يعتبرهم اليهود هراطقة. وظلت العلاقة بينهم معلقة! لكن يسوع اراد ان يكتشفه السامريون كما اكتشفته السامرية. بذلك يؤكد ان رسالته تشمل الجميع لكي يجددوا رجاءهم برحمة الله وبحضور الروح القدس ليقودهم الى لقاء  يغير حياتهم. لهذا السبب أسرعت السامرية الى مدينتها تقول لسكانها: "هلموا وانظروا شخصاً قال لي كل ما فعلت". فخرجوا من المدينة وأتوا إليه. السامرية غدَت شاهدة ومبشِّرة ومرافقة للآخرين الى فرح اللقاء بيسوع. يُفهمنا يسوع ان الايمان مسيرة صعبة، موسومة بمراحل عديدة وليس قبولًا عاطفيًا شكليًا! نص الانجيل عن السامرية يتيح لنا الفرصة لفحص مسيرتنا الروحية.

 

للسماح للروح ان يعمل فينا، نحتاج الّا ننشغل بهمومنا ونتعلق بأشيائنا مثلما تمسَّكت السامرية في البداية  بجرَّتها لسحب الماء، بل ينبغي ان تكون قلوبنا خالية من كل شيء لنفسح المجال للروح القدس أن يملأنا بعطاياه. السامرية تركت جرَّتها، ويعقوب ويوحنا تركا أباهما زبدى وتبعا يسوع (مرقس 1/ 19-20) انهم وجدوا الكنز “الملء”! هل نحن مستعدون لترك كل شيء لخدمة الروح واتباع المسيح؟

 

ماذا نطلب في صلاتنا من اللّه؟

المسيحي وفقاً للانجيل ليس من يمارس قائمة من العبادات والممارسات شكليًا، بل المسيحي هو قبل كل شيء من يصغي الى الله ويهتدي اليه ويتلقى نعمة “الايمان” المشبعة بالرجاء والمحبة، ويسعى جهده ليجسّد ارادة الله بالرغم من هشاشة طبيعته واخطائه. الروح القدس ينير بصيرته ويغيره من الداخل، ويوجهه ويدعمه: "حيث الروح القدس، هناك الحرية" (2 قورنثية 3/ 17). لذا يؤكد يسوع: "لأنكم بدوني لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا" ( يوحنا 15/ 5).

يشدّد بولس الرسول على أن من يلتقي بالرب يتغيَّر ويتحوَّل إلى صورته: "يتغير الى تلك الصورة عينها، من مجد الى مجد.." (2 قورنتس 3/ 18).

في هذا الوقت من كل عام  نصوم صوم الباعوثا المخصص للصلاة والتوبة والاعتراف بالخطايا، على ضوء دعوة يونان لأهل نينوى الى الصيام و التوبة1، اي الى استقبال الروح في حياتهم بشوق كبير. عبر الصلاة نفهم ارادة الله. ولقد استعمل يسوع المسيح آية يونان (متى 12/ 40) بالدعوة الى التوبة وتجديد الرجاء بحب الله، ورحمته لكل البشر. والسؤال المطروح علينا هو: الى اين تُفضي مسيرتنا التوبوية؟

أمام ضعفنا واحتياجاتنا، يدعونا يسوع الّا نقلق، بل ان نطلب من الله ان يمنحنا نعمة الروح القدس لندخل الى أعماق الشركة معه. وكلما كانت صلاتنا مطابقة لارادة الله كلما نلنا خيرات روحية أكثر بناءً على قول يسوع: "أُطْلُبوا تَجِدُوا، إِقْرَعُوا يُفتَحْ لَكُم" (لوقا 11/ 9).

الى جانب صلاة الطلب وصلاة الجماعة (الليتورجيا) ينبغي ان نتعلم ممارسة صلاة الصمت، أو نصلي مع نصٍّ من الكتاب المقدس في جوٍّ من الاختلاء والهدوء والصفاء والإعجاب والسجود ورفع الشكر وطلب المغفرة. هذه صلاة مستقبِلة لله، توطّد العلاقة معه: “عيشوا الصلاة والابتهال في الروح” (أفسس 6/ 18).

الصلاة تتطلب الثقة والتواضع والسلام الداخلي

 الثقة موقف إيجابي، بينما الشك موقف سلبي.. الثقة مرتبطة بالايمان اي في نيل نِعَم الله الآب الرحوم الذي لاحدّ لمحبته وتسليم ذاتنا له بالمطلق. وينبغي أن نعزز هذه أكثر أبان الفشل، بالتواضع الذي يجلب النِعَم، عكس التكبّر: "لأن اللّه يُكابر المتكبرين وينعم على المتواضعين" (1بطرس 5/ 5)…

هذا المقال نُشر على موقع البطريركيّة الكلدانيّة في بغداد، لقراءة المزيد إضغط هنا.

Previous
Previous

لسنا هنا عبثًا، بل اننا نحمل رسالة المحبة والرجاء والثقة، الهجرة اختيار أم تهرب؟

Next
Next

التثقيف الذاتي المستدام للإكليروس