احتفال المسيحيين بالافخارستيا (القداس) في القرون الاولى
غبطة البطريرك الكاردينال لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكلدان في العراق والعالم
عَدَّ مار بولس المعمودية خَتْمًا للإيمان (كولوسي 2/ 12)، أما عشاءُ الرب فلقد عبَّرَ عنه بكلمات يسوع نفسها. وبذل جهده لحمايته من الفوضى، ومن تحويله الى طعام عادي. يقول:
“فاني تلقيتُ من الرّب ما بلَّغته إليكم، وهو أنّ الرب يسوع في الليلة التي اُسلم فيها (للموت)، أخذ خبزاً وشكَر، ثم كسره وقال: "هذا هو جسدي، انه من أجلكم. اعملوا هذا لذكري". كذلك أخذ الكأس بعد العشاء وقال: “هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي.. فإنكم كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب الى ان يأتي“ (1 قورنثوس 11/ 23 – 26).
اذن يُذَكِّرُ عشاءُ الرب المؤمنين، بحضور المسيح المُمَجَّد والمستمر بينهم (الكنيسة).
احتفال مفعم بالرجاء بعودته ثانية. ويشرح بولس المعنى اللاهوتي لهذا الاحتفال في نفس الرسالة، وهي أقدم وثيقة مكتوبة من العهد الجديد وصلتنا (كتبها من أفسس في ربيع عام 57):
“أليست كأس البركة التي نباركها، مشاركة في دم المسيح؟ أليس الخبز الذي نكسره مشاركة في جسد المسيح؛ فنحن جسدٌ واحدٌ لأنه ليس هناك إلا خبزٌ واحدٌ، ونحن على كثرتنا جسد واحد لأننا نشترك في هذا الخبز الواحد” (1قورنثوس 10/ 16 – 17).
اذاً المشاركة في “عشاء الرب” مشاركة في جسده ودمه، وإعلان موته وقيامته وعودته ثانية. في البداية، اعتقد بولس ان عودة المسيح ثانية قريبة، ومن هذا المنطلق ورد في نفس الرسالة(16/22) الدعاء” تعال ايها الرب يسوع- ماراناثا”، غير انه استبعدها في رسائلة اللاحقة. المهم ان هذه العودة ليست مادية- جسدية!
من المؤكد ان الرسل والمسيحيين الاولين أمضوا وقتاً طويلاً لاستيعاب كلِّ هذه الابعاد والمعاني، وبلورتها والتعبير عنها في طقوس.
ليس من الواضح اذا كان كسر الخبز يتم في بيت واحد معين كبيت “بطرس” أم في بيوتٍ مختلفة. أما عشاء الأخوة أو “عشاء المحبة agapé “، فهو وجبة طعام يشترك فيها كلُّ الحاضرين، تعدّها العائلة المضيفة أو عدة عائلات لتوطيد العلاقة بين الجماعة، وإزالة الفروقات (كأنها وليمة الملكوت). ولما اتسعت حلقة الاجتماعات هذه، وازداد عدد المشاركين فيها، حصلت بعض التجاوزات، فاضطر بولس ان يُحَذِّرهم: “إذا كان أحدكم جائعاً فليأكل في بيته” (1 قورنثوس 11/ 34). ثم حرَّمت الكنيسة عشاء الاخوةagape في نهاية القرن الثالث، واقتصر الاحتفال على الافخارستيا وحدها.
من الملفت للنظر وجود اثر لعشاء الاخوة في كنائسنا عند الاحتفال بتذكارات بعض القديسين، حيث تجلب العوائل الطعام، ويتقاسمه المشاركون بعد القداس، ويسمونه شيرا – شهرا.
ينقل لنا كتاب ديداكيه1 شكل الاحتفال بكسر الخبز، أو صلاة الشكر في فلسطين نحو سنة 100:
يتم الاحتفال يوم الأحد(14/1) ولاتزال الكنائس الرسولية متمسكة بهذا التقليد، لكن الكنيسة الكاثوليكية أضافت القداس اليومي.
يجري الاحتفال في أحد البيوت، لان لا توجد كنائس مبنية بعد لعدة أسباب منها امنية. كان يتم في جوّ من دُفء الأُخُوّة والحماسة الدينية(10/ 1).
توجد بركتان: الاولى على الكأس، والثانية على الخبز،تعقبهما طلبات من أجل وحدة الكنيسة (9/ 1-5).
تلاوة صلاة ” أبانا الذي .. “في الاحتفال(8-2) وصيغة ديداكيه قريبة من صيغة متى.
لا يجوز اشتراك غير المعمدين وغير التائبين في قسم التكريس لان صلاة الابناء والمناولة محفوظتان للمؤمنين الذين بقوا امناء وانقياء أو الذين تابوا(9/ 5؛ 10/ 6).
“بخصوص الأفخارستيا، قدموا صلاة الشكر هكذا، أولًا على الكأس: نرفع لك الشكر يا أبانا من اجل الكرمة المقدسة، كرمة داود خادمك، لقد عرَّفنا بها يسوع أبنك. المجد لك أبد الدهور. ثم على الخبز المكسور: نشكرك يا أبانا لأجل الحياة والمعرفة اللتين منحتهما إيانا بيسوع أبنك، المجد لك ابد الدهور. وكما جُمع الخبز المكسور الذي كان مبعثراً في الجبال ليصير خبزاً واحداً، هكذا أجمعْ كنيستكَ من أقاصي الأرض في ملكوتك، لان لك المجد والقدرة أبد الدهور … لا يأكُلنَّ أحدٌ من سرّ شكركم الاّ المعمَّدون باسم الربّ … من كان قديساً فليتقدم ومن لم يكن فليتُب .. اجتمِعوا نهار الأحد واكسروا الخبز وقدِّموا الشكر لله” (9/ 1-5؛ 10/ 6؛ 14/ 1).
لقد إعتبر البعض هذه الصلاة بمثابة صلاةٍ على عشاء أخوي وليس على السرّ بالمعنى الدقيق، وشبهوها بصلاة البركة في المآدب اليهودية الدينية، أو المأدبة الأسينية (فريق يهودي متصوف) عند جماعة قمران، بينما رأى آخرون أنها “انافورا – طقس” بسيطة للقداس! اعتقد ان الأمور لم تكن قد تبلورت ونضجت الى هذا الحدّ.
أما رسائل اغناطيوس الانطاكي2 (استشهد في رومية عام 107)، فانها تستعمل لفظة افخارستيا اربع مرات، وتبرز الوعي اللاهوتي العميق الذي يتّسم به الاحتفال، خاصة من خلال مفهوم الاحدية والوحدة: وحدانية الله والمسيح الظاهرة في أحدية الأسقف، وأحدية الافخارستيا. يلحّ اغناطيوس على أهمية الكرازة والتعليم في الاحتفال، لمساعدة المؤمن على نقل نظره من الرمز المنظور الى الحقيقة غير المنظورة. ويرى ان الخبز والخمر هما اكثر من مجرد تخليد ذكرى موت المسيح وقيامته، انهما “دواء الخلود”.
“فإذا كنتم جميعكم تجتمعون كواحد، متشدّدين بنعمته، وبالإيمان الواحد بيسوع المسيح ابن داود حسب الجسد، ابن الإنسان وابن الله، فأنكم متّحدون قلبيًّا بطاعة غير متزعزعة للأسقف وللقُسس. تكسرون الخبزة الواحدة التي هي دواء الخلود، تقدمة معدّة لتحفظنا من الموت وتُؤمّن لنا الحياة الدائمة في المسيح” (افسس 2/ 20). “إياكم والاشتراك بغير سر الشكر الواحد، لانه لا يوجد غير جسد واحد لربنا يسوع المسيح وكأس واحدة توحدنا بدمه ومذبح واحد، كما يوجد أسقف واحد مع القسس والشمامسة رفقتي في الخدمة” (فلادلفيا 4).
تفقد الافخارستيا طابعَها المُغذّي إذا لم يرافقها الأيمان والمحبة: “ان جسد المسيح الحقيقي هو إيمان المسيحيين، ودمه هو محبتهم” (تراليان 8). لقد مارست روحانية اغناطيوس حول الافخارستيا تأثيراً كبيراً على التقليد الليتورجي في الشرق والغرب.
لنا وثيقة أخرى تقدم لنا تفاصيل أكثر عن إحتفال المسيحيين في فلســـــــــطين (نابلس) وروما. انها الدفاع الأول للقديس يوستينس3 (استشهد في رومية سنة 165)، وبكون المؤلف دفاعياًapologetic جاءت معطياته اكثر وضوحاً ودقةً من سابقيه. يذكر يوستينس إحتفالين بالقداس، الاول مرتبط بالمعمودية والثاني بيوم الأحد.
الاحتفال المرتبط بالمعمودية
هذا الاحتفال يدل على ان العماد يكتمل بالقداس وتناول القربان، الطعام الجديد للمولودين الجدد.
صلوات عامةّ من أجل المُعمّد ومن أجل الحضور.. (65/ 1)
قبلة السلام واستقبال المعمّد(65/ 2)
تقدمة الخبز والخمر الممزوجة بالماء(65/ 3). الماء يرمز الى اندماج المحتفلين بالمسيح (اقليمس الاسكندري، المربي 29/ 20).
صلوات شكر، وجواب المؤمنين بـ آمين(65/ 3،4)، أي اؤمن وأعترف.
توزيع القرابين على الحضور، ويحمله الخادم-لشماس(deacon ا) الى الاخوة الذين لم يتمكنوا من الاشتراك لسبب قاهر(65/ 5).
الاحتفال يوم الاحد
قراءة من العهد القديم والجديد(67/ 3)
موعظة تحث المؤمنين على ترجمة ما سمعوه الى واقع حياتهم(67/ 4)، لتعميق علاقتهم بالمسيح وببعضهم البعض.
طلبات عامةuniversal prayers (67/ 5).
تقدمة الخبز والخمر الممزوجة بالماء(67/ 5).
صلوات شكر متروكة لإلهام المترئس(67/ 5)
توزيع القرابين على المشاركين وحمل الشماس أجزاء منها الى الغائبين(67/ 5)
لمّة – تبسيّة. انها تقادم عينية يتبرع بها المشاركون لسدّ حاجة اخوتهم(67/ 5).
نكاد نجد هذه المعطيات نفسها اليوم في كافة رتب القداس بالرغم من التطور الذي حصل عليها عبر الزمن، وهي تُبرز أولاً: اندماج المؤمنين بالمسيح من خلال الصلاة والمناولة. ثانياً: الشركة مع بعضهم البعض من خلال المناولة بنفس الجسد، والتفكير بالغائبين عبر حمله لهم وايضاً اللّمة، اي الشعور بالمحتاجين والتفكير بهم “انهم اخوة” .هذا ما لا ينبغي ان ينساه المسيحي!
“في اليوم المدعو يوم الشمس (الأحد)، يجتمع في مكان واحد، سكانُ المدينة والريف، وتُقرأ “مذكرات الرسل” وكتب الأنبياء، بقدر ما يسمح به الوقت. وعندما ينتهي القارئ، يوجّه المترئس موعظة ينبّه فيها الحضور ويحثّهم على عيش تلك التعاليم الجميلة. بعد ذلك نقف جميعاً، ونرفع تضرعات، وفي نهايتها، يُقدم خبز وخمر وماء، كما اسلفنا. فيرفع المترئس بحرارة، صلوات وشكران، ما استطاع، ويجيب الشعب قائلاً: آمين. ويجري توزيع الافخارستيا على المشتركين واحداً فواحداً، وينقل الشمامسة منه الى الغائبين. والأغنياء الراغبون في العطاء يجودون بما يشاؤون، فيعطى كلّ واحدٍ ما يريد، فتُسلم الى المترئس، الذي يوزعها على الأيتام والأرامل والمرضى والمعوزين، أو تعطى للغرباء والسجناء” (الدفاع الأول 67 /3-7).
ثمة وثائق أخرى من نهاية القرن الثاني وبداية الثالث، تخبرنا عن المآدب الأخوية بين المسيحيين. يعلمنا هيبوليتس الروماني كيف كان المسيحيون في زمانه يجتمعون في بيت أحد المؤمنين، وخلال العشاء يُوزّع خبزُ يباركه الأسقف ثم تُرفَع بعض الصلوات. وعند المساء، يُضاء سراج وتُلقى موعظة، تعقبها صلوات أخرى. هنا أيضاً نجد التأثير اليهودي. يسود الاحتفال البساطة والاعتدال والتحفظ من كل ما يثير التشويش (طالع التقليد الرسولي 24 – 27). هذا الخبز الذي باركه الأسقف ليس بعد خبز الافخارستيا: “وعندما يتناولون الطعام ، ليتقبل المؤمنون كسرة خبز من يد الأسقف ، قبل ان يتناولوا خبزهم الخاص، لانه خبز مبارك وليس الافخارستيا كجسد الربّ” (التقليد الرسولي 26).
تعكس كتابات ترتليانس4 (+ 220) تقليد كنيسة قرطاجة شمال افريقيا عن الاحتفال الافخارستي وهو قريب مما وصفه يوستينس:
صلوات المؤمنين أو طلبات عامة(يقدم الدفاع 29 نماذج بديعة لها).
مزامير مرتلةresponsorial psalms ، مرفقة برّدة ينشدها الجمهور بعد كل بيت(عن الصلاة 27).
قراءات من الكتاب المقدس، تُختار حسب المناسبات لتغذي إيمان المؤمنين بالمسيح(الدفاع 3).
الموعظة(عن النفس 34).
اللمة لسدّ حاجة المعوزين(الدفاع 39).
تقدمة الخبز والخمر(ضد مرقيون 1/ 14، 23)
تكريس القرابين. يذكر ترتليانس صلاة الشكر التي يتلوها المحتفل على القرابين وهي موجهة الى الله الآب(ضد مرقيون 1/ 23).
المناولة: يستقبل المؤمنون الخبز المكرَّس على راحة يدهم، ويشربون الكأس مجاوبين بـ آمين(عن المسارح 25)، اي أومن واعترف. في بعض الأحيان يحملون أجزاء منه الى البيت ليتناولها الغائبون أو هم في أيام الأسبوع لاقتصار الاحتفال على يوم الاحد (في الصلاة 2).
نجد تطورًا لاهوتيًا ملفتًا للنظر حول الافخارستيا عند اقليمس الاسكندري (150- 215) الذي يعتبر الافخارستيا غذاءً جديدًا ملائمًا للإنسان المولود حديثًا بالمعمودية: “ذلك غذاء ملائم، أعطانا إياه الربّ، وهبَنا جسده، واراق في سبيلنا دمه لئلا تفتقر نفوسنا الى غذاء … ان اتحاد الجسد والدم ينشئ لنا المسيح – حياةً للصغار والكبار” (المربي 42/ 30)…
هذا المقال نُشر على موقع البطريركيّة الكلدانيّة في بغداد، لقراءة المزيد إضغط هنا.