نشأة طقوسنا، من سلسلة مقالات حول اللّيتورجيا الكلدانيّة بقلم غبطة البطريرك الكاردينال ساكو

غبطة البطريرك الكاردينال مار لويس روفائيل ساكو، بطريرك بابل للكلدان

أود ان أقدم خلاصة علمية شاملة لملامح طقسنا المشرقي الكلداني- الآشوري، خدمةً لإرثنا الأصيل الذي يشكل هويتَنا. هذه الدراسة هي ثمرة بحث منهجي وتحليل وتأمل في طقوس كنيستنا المشرقية التي تعد لؤلؤة في عقد الكنيسة الجامعة، وقد اعتمدتُ على المصادر العلمية الرصينة.

ان دراسة طقوسنا ليست بالأمر الهيِّن، لان الاكليروس والمؤمنين ألفوا تأديتها دون محاولة معرفة نشأتها ولاهوتها وأجناسها اللغوية الفنية، ورموزها وروحانيتها وريازتها الكنسية. هذا هو السبب في تعاطف البعض تعاطفاً متزمتاً مع التقليد، وينتقد التأوين والتجديد من دون ان يميز بان هذه النصوص روحية وراعوية وليست عقائدية ثابتة. هذه الإشكالية غريبة أساساً عن طبيعة الطقس الذي يحمل في جوهره القدرة على التجديد والتواصل. اخيراً أقول لهم ان الله سوف يحاسبنا على المحبة وليس على الطقوس الليتورجية.

أستخدام مصطلح "طقس"

ان لفظ “طقس- ܛܟܣܐ” معرَّبة عن اليونانية “taxis”، وتعني تنظيماً وترتيباً، وباللاتينية ordo. في المجال الليتورجي تعني لفظة الطقس رتب العبادة بضمنها صلاة الصباح والمساء والاحتفال بالقداس وبقية الاسرار المقدسة وتكريس الكنائس.. الخ . تستعمل أيضاً كلمة الخدمة ܬܫܡܫܬܐ السريانية أو الصلاة "ܨܠܘܬܐ".

طقوس الكنيسة بنصوصها والحانها ورموزها وحركاتها تتضمن تعليمها الرسمي وترسّخ العلاقة بين المؤمنين والله ومع بعضهم البعض كجسم واحد. والسؤال، كيف تكون العلاقة مع الله من دون الصلاة، ومن دون ان نفهمها ونعي ما نصليه؟

نبذة تاريخية عن طقوس كنيسة المشرق

نشأتْ كنيستنا في بلاد ما بين النهرين بمعابدها ومؤسساتها ورهبانها ولاهوتها وطقوسها وروحانيتها، ومن هنا إنطلقتْ إلى سائر المناطق. هذا التراب المَروي بدم شهدائها وقدّيسيها، يحتّم علينا نحن أحفادهم، أن نكرِّم ذكراهم ونواصل رسالتهم في حمل قنديل الإيمان وحضارة المحبة والسلام والتلاقي. من هذا المنطلق نرتل تراتيل الشهداء ܣܗܕ̈ܐ صباحاً ومساءً والتي كانت تتم في السابق ضمن تطواف الى بيت الشهداء martyrium حيث ذخائرهم.

اللاهوت الشرقي، لاهوت ليتورجي- عبادي في جوهره، وليس مدرسياَ أو منهجياً كما هو في الغرب. انه لا ينفصل عن رُتَب الصلاة. طقوسها قانون إيمانها وتعليمها الرسمي، ودستور سلوكها. كذا الحال مع الكلمة الالهية (الكتاب المقدس)، إذ لا تنفصل عن الطقوس، بل تُرتَّل لتكون محييّة.

لصلاة الكنيسة الرسمية أهميّة بالغة في حياة المسيحيين، فالاحتفال الليتورجي هو المناسبة المميّزة التي تعبّر فيها الكنيسة عن إيمانها كجماعة حيّة ومحتفِلة. الليتورجيا تُغذّي إيمان المشترِك فيها وتُنَشّئه وتُنضِجه وتساعده على الارتقاء والاتحاد بالله. هذا ما عاشه قديسونا وشهداؤنا.

قد يظن البعض أن طقوس الكنسية ونظمَها جاءت كلها دفعةً واحدةً، متكاملة ثابتة. هذا التفكير غير دقيق. تكوين طقوس العبادة أستغرق وقتاً طويلاً وبدأت ملامحه تظهر في القرن الثالث والرابع. و كان هناك تنوع في الطقوس و في النصوص، ولم تستقر الخدمات الكنسية إلاّ في القرون الوسطى. في البداية كان المسيحيون يترددون إلى الهيكل أو المجمع اليهودي للصلوات الاعتياديّة، ويلتقون في أحد البيوت مساءَ الأحد للصلاة والتعليم وكسر الخبز بحركاته الاربع: أخذ خبزاً، بارك، كسر، وناول. كانت هناك حرية كبيرة في اقامة الشعائر، ومساحة للالهام الشخصي، لكن انتشار المسيحية في أوساط متعددة وبخاصة الوثنية، وازدياد عدد المنتمين إليها، والشعور بالحاجة إلى التنظيم، دفعَ الكنيسة إلى التعبير عن إيمانها في طقوس وممارسات منظَّمة، تلبي حاجات الناس ومحيطَهم الجغرافي والفكري والاجتماعي والثقافي، معتمدة الأجناس الأدبية من مزامير، وقراءات من الكتاب المقدس، وترانيم وطلبات ومداريش، نثراً وشعراً، و ترافقها حركات وتطواف احياناً.

طقوس كنيسة المشرق بسيطة بعيدة عن مظاهر الاُبّهة، تحتفظ برصيد وافر من التآليف الشعرية، موزونة وموجزة والحان شجية ومتنوعة. هذه الطقوس هي اشبه بسمفونية تؤديها الكنيسة لتعبّر عن حبها لله وابنه يسوع المسيح ولروحه القدوس. عموماً هذه الصلوات موجهة الى الله الآب أو المسيح لكن تُختم بالثالوث الاقدس.

هذه الطقوس حافظت على مسيحيتنا عبر القرون وأمام تحديات واضطهادات وقدوم المسلمين العرب واحتلالهم هذه البلاد. لكي تؤثر هذه الطقوس على حياة الناس اليوم، تحتاج الى الاصلاح والتحديث خصوصاً ان اللغة التي كُتِبَت فيها هي السريانية الشرقية التي تدعى أيضاً الكلدانية والتي لا يعرفها الجيل الجديد.

لقد نظَّم هذه الطقوس آباء كنيسة المشرق أمثال مار شمعون برصباعي وافرام ونرساي، ويزدين وباباي، وبطاركتها، لا سيما البطريرك ايشوعياب الثالث الحديابي (649 – 659) الذي عنى بتنظيمها مع فريق من الرهبان العلماء أمثال عنانيشوع، مستنداً على النصوص الموجودة. واجرى تعديلات عليها، وعممها على جميع أبرشيات كنيسة المشرق. شكل هذا التنظيم نقطة تحوّل في تاريخ الليتورجيا المشرقية ويُعَد عصرها الذهبي.

التأثير الجغرافي

تنوّع الكنائس وتسميتها ظهر تباعاً نتيجة عوامل الرقعة الجغرافية واللغة والثقافة والسياسة. لذا نجد عدة طقوس في الكنيسة، نذكر منها الطقس الروماني/ اللاتيني، والبيزنطي- اليوناني، والسرياني والماروني والآشوري- الكلداني- الملاباري، والقبطي والارمني.

  1. طقس كنيسة المشرق (الكلداني – الآشوري) ثروة كبيرة! انه أقدم الطقوس الشرقية وابسطها. نشأ في بلاد ما بين النهرين (Mesopotamia)، التي كانت تحت الحكم الفارسي. لذلك اُعتبرت هذه الكنيسة خارج اسوار المملكة الرومانية، ولم تتمكن من الاشتراك في مجامعها البتة، لكن ظل مضمون إيمانها رسولياً حقاً وطقوسها سليمة عقائدياً. وما نجَمَ من سوء فهمٍ سببه اختلاف الثقافة واللغة. نشأت طقوس كنيسة المشرق في بيئة من أصل أورشليمي (يهودي) يظهر ذلك من الريازة الكنسية: قدس الاقداس، الستارة، البيما، واستعمال المزامير بكثرة. هذه النشأة في بيئة جغرافية وثقافية بعيدة عن التأثير اليوناني ساعدتها على الاحتفاظ باصالة طقوسها وطابعها المشرقي- الساميّ samite ، وألحان شجية ذات صبغة من الخشوع والرجاء والفرح، وغير مقيّدة بأساليب النوتة وأوزانها.

هذه الطقوس كُتِبت باللغة السريانية – اللهجة الشرقية التي تسمى أحياناً “خطأً” اللغة الاشورية أو الكلدانية مقارنة باللهجة الغربية السريعة (سعرتو) التي يستعملها السريان الكاثوليك والارثوذكس والموارنة.

2. الطقس الكلداني: ينتمي الى طقس كنيسة المشرق، اُجريت عليه بعض التعديلات بسبب انتماء قسم من أبناء كنيسة المشرق الى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية عام 1553. لكنهم عموماً، حافظوا على نفس الطقس. واُدخلت فيه بعض العبادات اللاتينية والأعياد المريمية كعيد قلب يسوع وعيد الجسد.

3. طقس الهنود الملابار، أي طقس الهنود في ساحل الملابار الذين كانوا منتمين لكنيسة المشرق ويتبعون طقسها ويمارسونها باللهجة السريانية الشرقية الى القرن السادس عشر. وعندما قدم المبشرون البرتغال اللاتين الى الهند غيروا طقوسهم فاصطبغت بصبغة الليتورجيا اللاتينية. حالياً عادوا الى الطقس المشرقي ورفعوا عنه اللتننة، ورتبوه بحسب ثقافتهم وترجموه الى لغتهم "مليالم".

كنيسة المشرق

تاريخ كنيسة المشرق بلا بهاء خارجي ولا قوّة سياسية مثلما كان حال الكنائس البيزنطية واللاتينية. إنجازاتُها الرئيسية: ليتورجية، روحانية، ثقافية وتبشيرية. كنيستنا كافحت للبقاء على قيد الحياة بالرغم من العزلة والإضطهاد. ولكونها خارج الإمبراطورية الرومانية، نَعَمِت بِقِسْطٍ من الإستقلالية. كنيسة لم تكن قوميّة بالمعنى الحصري، بل ضمّت شعوباً وأقواماً من أعالي ما بين النهرين وبلدان الخليج العربي والهند حتى الصين. ليتورجيتها باختصار كونيَّة ديناميكية، عيدٌ واحتفالٌ، وينبوعُ حياةِ.

يرسم التقويم الكنسي الازمنة الطقسية (السابوعات) بصلواتها الخاصة على محور التدبير الخلاصي (ܡܕܒܪܢܘܬܐ). ولكل موسم تراتيله وصلواته ومزاميره وقراءاته، لتساعد المؤمن على عيش الزمن (الحدث) الذي يُحتَفل به.

كانت توجد خدمتان امام البطريرك ايشوعياب الثالث الحديابي عندما قام بتنظيم طقوس كنيسة المشرق في الدير الاعلى (الطهرة في الموصل): خدمة كنيسة كوخي الكاتدرائية، كنيسة الكرسي البطريركي، والخدمة الديرية الرهبانية، فوحَّد الخدمتين في طقس واحد اقرب الى الخدمة الرهبانية منه الى الخدمة الرعوية. ولا ننسى ان ايشوعياب كان راهباً من دير المرج بنواحي عقرة وفريقه الفني كان من الرهبان أيضاً.

خدمة الكاتدرائية والرعية: كانت تشمل صلاة الصباح والغروب ܨܦܪܐ ܘܪܡܫܐ مع مزامير مختارة ومرتلة، وترانيم وتسابيح وطلبات تصحبها الردة التي كان يرددهاالمشتركون فيها.

الخدمة الديرية الى جانب الصلاتين الرسميتين للكاتدرائية كانت تضمُّ طقوس اخرى كصلاة الليل والمجلس والسهر ܠܠܝܐ ܘܡܘܬܒܐ ܘܫܗܪܐ …الخ. وفي الصوم الكبير تتضاعف اوقات الصلاة لتصبح سبعة أوقات.

توزيع الصلوات والاداء: وزع البطريرك ايشوعياب وفريقه الصلوات الى اسابيع فردية ܩܕܡܝ̈ܐ واسابيع زوجية ܕܚܪ̈ ܝܐ، لربما كان هذا التوزيع موجوداً قبله!. كذلك وزع المصلين الى فريقين: الفردي والزوجي.

حديثًا

الدراسات الليتورجية عندنا حديثة العهد، بدأت بالمطرانين سرهد جمو وجاك اسحق والآباء بطرس يوسف، منصور فان فوسيل المخلصي، ريّان عطو، والاخت سناء حنا من راهبات القلب الأقدس والاخت مرتا الدومنيكية. معظم هولاء الاشخاص درس على يد المتخصص بطقوسنا المشرقية الاب خوان ماتيوس Juan Mateos، الاستاذ في المعهد الشرقي بروما، وكان قبله الكاهن الفرنسي لويس دوشسن Louis Duchesne (1843-1922)…

هذا المقال نُشر على موقع بطريركيّة بابل للكلدان، لقراءة المزيد إضغط هنا.

Previous
Previous

الكتب الطقسيّة للصّلوات من سلسلة مقالات حول اللّيتورجيا الكلدانيّة بقلم غبطة البطريرك الكاردينال لويس روفائيل ساكو

Next
Next

القديم والجديد