تعليم غبطة البطريرك ساكو 9 – "من الذي فَتَنَكم" (غلاطية 3/1)

غبطة بطريرك بابل للكلدان الكاردينال مار لويس روفائيل ساكو

سؤال تطرحه الرسالة الى غلاطية على مؤمني هذه المدينة التي زارها الرسول بولس ثلاث مرات على الأقل، والسؤال مطروح علينا اليوم ا أيضاً: مَنْ فَتَنَنا؟

مَنْ فتننا هو الرب يسوع المسيح، ابنُ مريم، أي ليس له أبٌ أرضيّ كما لنا، إنما “كوِّن فيها من الروح القدس” (متى 1/ 20). اسمه يسوع “اللّه يخلّص” ولقبه المسيح، أي مفروزٌ للرسالة التي جسَّدها في ذاته “الكلمة صار بشراً” (يوحنا1/ 14).

لهذا السبب، نحن لسنا ديانة كتاب، بل ديانة شخصٍ حيّ وحاضر بشكل يفوق حواسنا، ولا يزال يكلّمنا. هذا إيماننا وهو نابع من تعليم الإنجيل، أي التعليم الإلهي.

اتحاد يسوع مع اللّه اتحاد وجداني- حميميّ قائم على أساسٍ الهي “من رآني فقد رأى الآب” (يوحنا 14/ 9). اذاً يسوع هو صورة اللّه الاب. يسوع يدخل الى سرّ اللّه، ويُصغي الى إلهاماته (كلماته)، ويُعلنها مهما كلّفه الثمن (حتى الصلب). لذلك يسوع هو أكثر من نبيّ، إنَّه ابن اللّه الحي، كما أعلن بطرس (متى 16/ 16).

يسوع نفسه فضَّل استعمال لقب “ابن الإنسان” (متى 8/ 31-33)، انه ابن الإنسان، وابن اللّه. هذا ما يؤكده إيمان الكنيسة. يسوع الإنسان هو ابن اللّه (بنوَّة خاصة)، هدية اللّه للبشر، إنه كلمة اللّه التي جسَّدها في شخصه. به ومعه يستطيع المؤمنون ان يكونوا أبناء اللّه. هذا الإيمان يغدو لهم قوّة وغذاء، يبني حياتهم وعلاقاتهم العائلية والاجتماعية ومسيرتهم نحو الحياة الإلهية.

النبوَّة في حياة المسيح

يُبرز الإنجيليون يسوع كنبي أواخري: رجل اللّه، رجل الروح، وشاهدٌ لمحبة اللّه للبشر ورحمته وغفرانه: المرأة السامرية: “يا سيدي أرى أنك نبي” (يوحنا 4/ 42). وعقب تكثير الخبز نادى الحاضرون: “حقاً هذا هو النبي الآتي الى العالم” (يوحنا 6/ 15)، وتلميذا عمّاوس: “كان نبيّاً مقتدراً على العمل والقول عند اللّه والشعب كله” (لوقا 24/ 19).

من علامات النبوّة، الخلوة: فالنبي شخص يختلي للتفكير والتأمل والصلاة والعودة المستمرة الى من دعاه وأرسله. هذه الخلوة هي القوة الدافعة لرسالته.

كيف مارس يسوع موهبته النبويّة؟

 جاء في إنجيل لوقا: “ولما اعتمد يسوع وكان يُصلي، انفتحت السماء ونزل الروح عليه فخرج وهو ممتلئ من الروح القدس” (لوقا 3/ 21) ونقرأ في انجيل متى: “هو ذي فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي عنه رضيت، سأفيض روحي عليه فيبشِّر الاُمم بالحق” (متى 21/ 18 وكذلك إشعيا 42/ 1-4).

لكن النص الجوهري الذي يعدّ فعلاً برنامج عمل يسوع النبوي هو ما جاء في إنجيل لوقا وهو مقتبس من سِفر إشعيا (61/ 1-2): “ودخل المجمع يوم السبت وقام ليقرأ. فدُفِعَ اليه سِفر النبي إشعيا. ففتح السِفر فوجد المكان المكتوب فيه: “رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين، وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ. ثُمَ طَوَى السِّفرَ فَأَعادَه… فَأَخَذَ يَقولُ لَهم: اليوم تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم” (لوقا 4/ 18-21).

هذا ما شهد له تلاميذ يوحنا: “اذهبوا واخبروا يوحنا بما تسمعون وترون: العميان يبصرون والعرج يمشون والبرص يبرئون والصم يسمعون والموتى يقومون والفقراء يُبشَّرون” (متى 11/ 4-6). هذه العلاماتِ الأربع قادت التلاميذ الأولين الى المسيح، لكنه لا يريد أن يتعرّف عليه الناس من خلال المعجزات، بل أن يكتشفوه من الداخل.

حضوره ومضمون تعليمه

حضوره يسوع يلغي كل فصل فئوي بين الناس: “انتم إخوة” (متى 23/ 8) وأبناء اللّه “أبانا الذي في السماوات” (متى 9/ 6-13 ولوقا 11/ 2 – 4). اما مضمون تعليمه فيلخّصه مرقس بجملة واحدة: “حان الوقت واقترب ملكوت اللّه، فتوبوا وآمنوا بالبشارة” (1/ 15)، ولوقا: “وسار بعد ذلك في كل مدينة وقرية ينادي ويبشِّر بملكوت اللّه” (8/ 1). ملكوت اللّه يرسمه متى ولوقا في لوحة التطويبات التي هي مثل الوصايا العشر التي حملها موسى للعبرانيين “طوبى لِفُقراءِ الرُّوح فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات. طوبى لِلوُدَعاء فإِنَّهم يرِثونَ الأَرض. طوبى لِلْمَحزُونين، فإِنَّهم يُعَزَّون. طوبى لِلْجياعِ والعِطاشِ إِلى البِرّ فإِنَّهم يُشبَعون. طوبى لِلرُّحَماء، فإِنَّهم يُرْحَمون. طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ اللّه. طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللّهِ يُدعَون” (متى 5/ 3-9، لوقا 6/ 20-26).

 هكذا يكلّم يسوع الناس في عمق ذواتهم: “الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: “كُلُّ مَن يَرتَكِبُ الخَطيئَة يَكونُ عَبْداً لِلخَطيئَة… مَن كانَ مِنَ اللّهِ استَمَعَ إِلى كَلامِ اللّه. فإِذا كَنتُم لا تَستَمِعونَ إِلَيه فَلأَنَّكُم لَستُم مِنَ اللّه” (يوحنا 8/ 34، 47).

يسوع نبي متجوِّل ومتجرّد: “إِنَّ لِلثَّعالِبِ، أَوجِرة، ولِطُيورِ السَّماءِ أَوكاراً، وأَمَّا ابنُ الإِنسان فَلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه” (متى 8/ 20) …

هذا المقال نُشر على موقع بطريركيّة بابل للكلدان، لقراءة المزيد إضغط هنا.

Previous
Previous

تعليم غبطة البطريرك ساكو 10 – الكتاب المقدس – قصة الحبِّ العظيم

Next
Next

عظة سيادة المطران بولس روحانا خلال صلاة ختام "موسم الخليقة" 2021 في دير سيّدة الزيارة، لبنان