تعليم غبطة البطريرك ساكو 11 – الحياة والموت

غبطة بطريرك بابل للكلدان الكاردينال مار لويس روفائيل ساكو

ما الحياة؟

يختلف مفهوم الحياة من شخص لآخر، لكن بالنسبة لأغلبية الناس الحياة هي الإطار الذي يعيشون فيه: ولادة، نمو، عمل (وظيفة) للمعيشة، تكوين أسرة (زواج)، انجاب، موت. كسب المال لضمان المعيشة، ولنيل بعض الرفاه والمجد والشهرة. على الانسان ان يدرك ان قيمة حياته في نجاحه وسعادته الحقيقية وخلوده، وان أضاعها في الانانية وخلق المشاكل فستكون سبب تعاسته.

الحياة أكبر من هذه الامور المادية. الحياة علاقة حب وصداقة. من تحب يعيش فيك، في وجدانك. أليس الى هذا يشير يسوع عندما يقول: “أنا والآب واحد” (يوحنا 10/ 30) والزوجان يصيران جسداً واحداً من خلال حبهما (متى 19/ 6).

في المنظور المسيحي، ان الله المحبة هو مصدر الحياة التي يهبها ليكون قريباً منّا. علينا ان نشكره عليها، وان نتحمل مسؤوليتنا لتنظيمها والاعتناء بها وصون سلامتها وجمالها وديمومتها واستثمارها لفعل الخير تجاه الجميع. يقول آينشتاين العالم الفيزيائي الالماني:”وحدها الحياة التي يحياها الانسان من أجل الآخرين هي حياة ذات قيمة“. اذاً اجعل حياتك كلها لإرضاء ضميرك (لله) وخدمة إخوتك لأنك لا تعلم متى تموت!

الحياة إما تكون جدية أو تكون سطحية والبون شاسع بين الاثنين. اما ان تبني ذاتك انطلاقاً من حب كبير وهدف عظيم، سامٍ. “ليست للحياة قيمة، الا إذا وجدنا شيئاً نناضل من أجله” يقول العالم الكيمياوي الفرنسي سوفاج. ببنيان الذات يحقق الانسان الواعي الحياة والامتداد والخلود.

مشروع الحياة ليس فردياً أبداً، بل عمل جماعي وهنا أشدد على دور العائلة والصداقات الحقة لفعل شيء كبير يبقى. فالسؤال المطروح علينا هو: هل نحن منفتحون على بعضنا البعض أم منغلقون كل واحد على أنانيته؟ الانغلاق نوعٌ من أنواع الموت!

البعد الروحي للحياة

رواية خلق الانسان في سفر التكوين (الفصل الاول والثاني) تشير الى ان الله خلق آدم وحواء لينعما بالفردوس معه بالخير والصلاح والصحة، وكذلك ذرّيتهما. وكان بإمكانهما أن يعيشا في الحالة التي خططها اللّه لهم، لكنهما فضَّلا ان يستقلّا عنه بارادتهما وحريتها، فكان ان أخطآ وفقدا حالة النعمة والصداقة والحماية! بمعنى آخر ان الحياة الحقّة لا تتحقق بمعزل عن العلاقة مع الله. ويعلن الكتاب المقدس في اكثر من مكان ان الحياة هي اثمن عطايا الله، وما علينا إلاَّ ان نعرف كيف نتعامل معها في الواقع اليومي وان نوجّه نشاطنا نحوها. الحياة نعبّر عنها في الحب والعطاء والخدمة. فتتحول هذه الخدمة الى ينبوع الحياة، وأمامنا مثال المسيح.

وجود المرض والالم هو جزء من حياة الانسان الذي يشعر بهشاشة حياته، وعدم الأمان بشأن بقائه على قيد الحياة. المخاطر عديدة ومتنوعة وطبيعة الإنسان الجسدية قابلة للمرض والتلف، لكنه في عمقه يأمل بالحياة، وهذا الامل يستند الى حماية الله له. فالله يقف دوماً الى جانب الحياة، وليس الى جانب الموت، كما نلمس ذلك في الكتاب المقدس. جاء في سِفر المزامير “إٍذا سِرتُ فيما بَينَ المَضايِق فإِنَّكَ تُحْييني.. تمُدُّ يَدَكَ فتُخَلِّصُني يَمينُكَ… الرَّبُّ يُتِمّها علَيَّ” (مزمور 138/ 7-8).

ثمة بُعد روحي أساسي في الحياة ينبغي أن يَظلَّ أول الأولويات. هذا البُعد الروحي الأبدي يؤكده يسوع في الانجيل: الانسان “ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله” (تثنية 8/ 3، متى 4/ 4). والمسيح يتكلم عن انه خبز الحياة (يوحنا 6/ 35) ومنه ماء الحياة (يوحنا 4/ 10-14) وكلامه روح وحياة (يوحنا 6/ 63) ويهب الحياة (يوحنا 6/ 33). بهذا المعنى يفنى الجسد وينتهي بايولوجياً، لكن الانسان المعنوي – الروحي لن ينتهي، لان الله لم يخلقه وقتياً ليموت، انما ليتمتع بمستوى أخر من الحياة.

الحياة الابدية

الرب الذي خلقك عن تصميم وليس من باب الصدفة. خلقك لانه يحبك ويريدك سعيداً . سوف يدعمك بنعمته ويمنحك الوسائل شرط ان تكون انساناً صادقاً ومستقيماً. في هذه الحالة ليس هناك ما يدعو لليأس.

تُفهم الحياة الأبدية بمَعنَيين: الحياة بعد الموت وهو المفهوم الشائع. والحياة التي يمنحها الله للمؤمنين منذ الآن (قولسي 3/ 3). الحياة الأبدية ليست عندما نموت، بل عندما نكون أحياء. هناك موت رمزي أقوى من موت الجسد. جاء في صلاةٍ لاسحق النينوي: “إملأ قلبي من الحياة الأبدية. والحياة الأبدية هي التعزية في الله” (الطريقة ص 337).

المسيحي متَّحد بالمسيح بالمعمودية، إذ يجعله الروح القدس في المعمودية إبناً لله. فالحياة الروحية تبدأ من المعمودية صعوداً حيث يرفعنا الروح القدس الى الله، لنشاركه حياته الالهية خصوصاً في الافخارستيا. هذا الاشتراك هو عربون الحياة الأبدية: “والحَياةُ الأَبدِيَّة هي أَن يَعرِفوكَ أَنت الإِلهَ الحَقَّ وحدَكَ ويَعرِفوا الَّذي أَرسَلتَه يَسوعَ المَسيح” (يوحنا 17/ 3). جاء في موشحات سليمان “لاني أحبّ ذلك الابن، صرتُ إبناً. من إنضمَّ الى من لا يموت، صار هو أيضاً غيرَ مائتٍ. ومن يَسُرُّ بالحياة يُصبح حيّاً” (موشحات ص 97). كذلك يوحنا الدلياتي: “يا من تحبُّ الله. انظر اليه بالدهشة التي تُحدِثُها عظمته فلا تموت. أنظر اليه في نفسك، وأبصره في داخلك” (الرسالة 50/ 17). الحياة الطوباوية السعيدة مرتبطة بعلاقتنا مع الله وإندماجنا فيه وبعلاقتنا مع بعضنا البعض.

قيامة المسيح عربون قيامتنا

لقد هزم المسيح، ابن الله الموت بقيامته، التي فتحت لنا طريق الحياة. فان محبة الله ورحمته حققت انتصاراً باهراً على الموت: “قدِ ابتَلَعَ النَّصْرُ المَوت.. وأَينَ يا مَوتُ شَوكَتُكَ؟” (1 قورنثية 15/ 54-55). نعمة الله هي التي تخلصنا، وتهبنا أن نولد ثانية لحياة جديدة هذا كان مدار حوار يسوع مع نيقوديمس (يوحنا3/1-21 )، والرسالة الاولى لبطرس: “تَبارَكَ اللهُ أَبو ربِّنا يسوعَ المسيح، شَمَلَنا بِوافِرِ رَحمَتِه فوَلدَنا ثانِيَةً لِرَجاءٍ حَيٍّ بقِيامَةِ يسوعَ المسيحِ مِن بَينِ الأَموات” (1 بطرس 1/ 3) …

هذا المقال نُشر على موقع بطريركيّة بابل للكلدان، لقراءة المزيد إضغط هنا.

Previous
Previous

تعليم غبطة البطريرك ساكو 12 – العائلة المسيحية والتحديات الحالية

Next
Next

تعليم غبطة البطريرك ساكو 10 – الكتاب المقدس – قصة الحبِّ العظيم