هل ثمة مستقبل لمسيحي العراق والمنطقة؟
غبطة البطريرك الكاردينال مار لويس روفائيل ساكو
شهد العراق مؤخرًا على مستوى مسيحييه مستجدات سياسية وكنسية ملفتة للنظر، كما يقف على المستوى الرسمي، أمام انتخابات جديدة، تقول عنها اكثر من جهة بأنها مفصلية، مما يرشح من جديد السؤال، وبنحو مصيري، على مستوى العراق والمنطقة: هل ثمة مستقبل لمسيحيي العراق والمنطقة؟
الواقع المتراكم المقلق
تعيش مجتمعاتنا منذ سنوات أزمة روى وفكر وبُنى قد لا بيلحظها السياسيون في البلاد، وهذه جملة مؤشرات:
بعد أن تم في عام 1958 إسقاط النظام الملكي الذي في نظر مؤرخين، كان العراق في ظله يتمتع بقدر من السلام والاستقرار، قام نظام جمهوري غالبا ما وصف بنظام دكتاتوري، إذ دخل في حروب دامية مع الجيران، وصراعات داخلية مريرة... حتى سقوط النظام سنة 2003. ومنذئذ يشهد البلد فشلاً سياسياً بسبب سوء الادارة والفساد، وتعدد الفصائل المسلحة المنقسمة وفق عقائد قومية وطائفية.
أقلية على مهب التيارات المتشددة. المسيحيون العراقيون خاصة ومسيحيو المنطقة عموماً كونهم أقلية عددية عانوا الكثير، مما دفع أكثر من مليون مسيحي عراقي الى الهجرة. إنهم يشعرون بالخوف والقلق حول مستقبلهم ومصيرهم بسبب وجود تيارات اسلامية متشدده واشاعة الثقافة الطائفية والعشائرية والمحاصصة والتهميش والاقصاء واحيانا الصدامات العسكرية. تحديات كبيرة تهدد وجودهم وتواصلهم على ارضهم، بالرغم من انهم سكانها الاصليون وجزء من حضارتها وتاريخها وفسيفسائها..
عقود بلا كيانات سياسية أو ثقافية. صحيح ان لهم اسهامات خلال 100عام الماضية في مختلف جوانب الحياة الى جانب مواطنيهم، لكن لم يكن لديهم قياديون علمانيون مقتدرون اذا استثنينا اغا بطرس وسورما خانم. لم يفكر المسيحيون بمستقبلهم، ولم يعملوا شيئا من اجله. لم يشكلوا احزابا سياسية، ولم يتوفر لهم تأسيس منظمات مدنية ولا مراكز ثقافية - ما عدا بعض المدارس والتي سرعان ما اممتها الدولة في السبعينات-. ولافتقادهم طوال عقود لتلك الكيانات السياسية والمدنية والاجتماعية، لم يستطيعوا ان يشاركوا في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية الحيوية، ويضمنوا حقوقهم ومساواتهم كمواطنين اسوة بالمسلمين. اتكلوا على الدولة والكنيسة وظلوا جماعات تعيش في التوجس وتشعر ان مستقبلها مجهول.
شجاعة تقويم الاخطاء وايمان الارتباط بالجذور. بعد سقوط النظام شكل بعض المسيحيين احزابا سياسية قومية، وهي بداية مشجعة، لكنها لم تتحد في عمل جماعيّ ورؤية واحدة وخطة دقيقة لعمل من اجل المسيحيين، بل اهتمت بالشأن القومي والمصالح الذاتية الضيقة. حتى الكوتا مختطفة لأجندات أخرى. لم يسبق للمسيحيين كمكون ان يتحالف مع كتلة وطنية مهمة بهدف نجاح الديمقراطية وبناء دولة مدنية، دولة ذات سيادة حقيقية، و مؤسسات رصينة، دولة مواطنة وقانون ومؤسسات وعدالة، وحرية الرأي والمعتقد، دولة تعتمد في التعيينات الانسان المناسب في المكان المناسب.
ضروري اليوم ان يعترف المسيحيون بالأخطاء ويتحملوا المسؤولية في معالجة اوضاعهم. المستقبل مشروع يُعده من يسعى اليه.. نظريا قد تكون الدولة هي التي تعد مستقبل مواطنيها بالتعاون معهم، لكن العراق و بلدان المنطقة تعيش ازمات وتحديات مصيرية وتشتتا وانقسامات! لذلك لا ينتظر المسيحيون ان يُعطوا حقوقهم آلياً، بل يجب ان يطالبوا بها كاملةً ويجاهدوا سلميا من اجل أخذها..
بقاء المسيحيين على ارضهم ليس مرتبطا بالعدد، بل بايمانهم بالله كما قال البطريرك صباح في مقابلة مع وكالة فيديس الفاتيكانية قبل ايام، وارتباطهم بالارض وبالعمل المشترك مع اقرانهم المواطنين...
خطوات عملية
هنا ومن باب مطالبتنا بوطن يكون للجميع، وأنموذج ارتقاء للمنطقة كلها أعرض بعض خطوات ليست من الخيال، بل مما نعيشه يوميا، ونتطلع اليه، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وطنيا ومسيحيا.
1. المسيحيون العلمانيون. مسألة بقاء المسيحيين وحضورهم في العراق والشرق هي اولا مسؤوليتهم. من الضروري ان يتحملوا مسؤوليتهم ويخرجوا من العقلية الطائفية والمشاحنات غير المبررة، ويحتضنوا بعضهم كمكون متحد في الخطاب والمواقف وعقد مؤتمرات وندوات وتحشيد الراي العام الداخلي والخارجي من اجل قضيتهم والتعاون مع الجميع لبناء دولة مدنية وديمقراطية ومجتمع تعددي ، ويعملوا من اجل اجراء تعديلات في الدستور والقوانين وخصوصا الاحوال الشخصية وحرية الضمير، على غرار دول المجتمع المدني في العالم المتحضر. وهنا اتمنىا ممن هم في الخارج ان تكون مشاركتهم ايجابية وليس انتقادات موجعة وهدامة والقاء اللوم على الاخرين.
2. الكنيسة. تجد الكنيسة نفسها اليوم في قلب تحديات معقدة ومطالبات لا تنتهي. معظم الكنائس تجد اليوم صعوبة في إدارة علاقة جديدة كاملة مع العالم مما يمكنها أن تحمل خميرة الأمل والرجاء لمعاصريها. في اعتقادي هذا هو التحدي الذي يجب على الكنائس مواجهته. يمكن للكنيسة أن تكون أساسية كجسد حي ومكان شركة ولقاء وحوار وثقافة وبناء شبكة من الصداقات على مثال المسيح.
لقد فرضت وسائل التواصل الاجتماعي ووباء فيروس كورونا على البشرية واقعًا جديدًا مختلفًا عن واقعنا، فمن من الضروري ان تخرج الكنيسة من العزلة والانغلاق على طقوس العبادة ،. يتعين على الكنيسة ان تسمع كلمة الله بجرأة حتى تفتح ببساطة طريقها الى قلب الانسان وروحه فيدخل الله اليهما وينجز عمله.
3. يتطلّب المستقبل من الكنائس ان تواجه الواقع الجديد برؤية موحدة فهي ملزمة بحكم رسالتها الروحية والانسانية لتواجه " الشأن العام res publica”" من اجل تحقيق السلام والعدالة وحماية التنوع والخير العام لكل الناس.، تماما كما يدعو البابا فرانسيس. وقد تكرست رؤيته من خلال توقيعه على "وثيقة الأخوة الإنسانية" بالتعاون مع إمام الأزهر الشيخ د. الدكتور أحمد الطيب، وزيارته للعراق ورسائله حول " كلنا أخوة، لكن متنوعون" ولقائه مع المرجع الشيعي الاعلى السيد علي السيستاني في النجف، الذي صرح" انتم جزء منا ونحن جزء منكم" ، اي اننا جسد واحد. هذه وثيقة ثانية ينبغي الاستناد اليها لتعزيز مساحات مشتركة ومهمة بين المسيحيين والمسلمين وتفعيلها وايجاد آلية لقبول اختلاف الاخر وللعيش المشترك المتكافئ بالحقوق والواجبات.
وبخصوص كنائس العراق، اؤكد ان الكنيسة الكلدانية ليست كما كانت قبل عشر سنوات، كنيسة تجددت وجددت رؤيتها ونشاطها، مما جعل لها حضوراً في المجتمع العراقي والمحافل الدولية والكنسية. انها مستعدة بكل فرح لتقود النشاط العام للكنائس في العراق مع احترام مطلق لخصوصية كل كنيسة، ولنا الامل ببطريرك كنيسة المشرق الاشورية الجديد للتضامن والتعاون.
4. مسؤولية الدولة. إن التعايش بين المسيحيين والمسلمين والمكونات الدينية الاخرى، يمكن ان يستمر، في سبيل عراق متعافٍ وناهض، اذا تغير الفكر والثقافة والتعامل بالمساواة . على الحكومة ايقاف نزيف هجرة المكونات الدينية من العراق والمنطقة – مسيحيين وصابئة ويزيديين، بالوقوف الجاد والصريح على أسبابها ومعالجتها جذريا، واتخاذ الاجراءات لضمان حمايتهم وحقوقهم ومستقبلهم وتشجيع النخبة على العودة من خلال تقديم حوافز مهمة لجذبهم، وجعل العراق البيت الأبوي للكل، ذلك باعتماد خطوط عريضة أساسية للتربية الدينية تعرف الديانات بشكل ايجابي وتفكك الخطاب التحريضي للكراهية بكل انواعه ومحاسبة الاشخاص والدول التي تدعمه فكرا ومالا.